أحمد الجاراللهرَحَلَ الدكتور أحمد الخطيب، قديس السياسة الكويتية، وصاحب المواقف الوطنية الصلبة، الذي اختار الطريق الصعب في العمل السياسي، فلم يُناور أو يُساوم، ولا استغلَّ تمثيلَهُ للشعب في تحقيق منافع خاصة، فلا سعى بواسطة لتعيين هذا أو ذاك، ولا زرع مفاتيحَهُ الانتخابية في الوزارات، لذا بقي كبيراً، وتحوَّل أحد أعمدة الدفاع عن الديمقراطية الكويتية.هذا الرجل الذي ودعته الكويت، أمس، كان آخر الرجال الذين وضعوا الدستور، وأمضى حياته في الدفاع عنه، لذا احترمه من اختلف معه بالرأي قبل الذين أيَّدوه، وشهد له الجميع بنظافة الكف؛ لأنه مارس العمل السياسي عن قناعة بضرورة خدمة الوطن، فاختار منذ البدء أن يكون مع الكويت، الشعب والأرض والمؤسسات، والحكم الذي كان ينتقد بعض المثالب فيه بلغة راقية.أحمد الخطيب السياسي كان هو، أيضاً، الطبيب الإنساني، استعان بالطب على العيش الكريم مما تدره عليه عيادته، التي جعل جزءاً منها للمُحتاجين والفقراء، لا يُفرِّق بين هذا وذاك، لا على أساس الجنس أو العرق أو الدين؛ لأنه مؤمن بالعدالة الإنسانية.ثمَّة الكثير من عِبَرِ التاريخ التي تدلُّ على معادن الرجال، ومنها وصية الإسكندر المقدوني، هذا القائد الكبير الذي حكم مساحات شاسعة من العالم القديم، وحين شعر بقرب أجله، وهو ابن 36 سنة، استدعى أحد قادته وقال له: "إني سوف أغادر هذه الدنيا قريباً وعندي ثلاث أمنيات أرجوك أن تحققها لي من دون أي تقصير، وصيتي الأولى: ألا يحمل نعشي عند الدفن إلا أطبائي ولا أحد غيرهم؛ ليعلم الناس أنه إذا حضر الموت لم ينفع في رده حتى الأطباء.الثانية: أن يُنثر على طريقي من مكان موتي حتى المقبرة الذهب والفضة وأحجاري الكريمة التي جمعتها طيلة حياتي؛ حتى يعلم الناس أنَّ كلَّ وقت قضيناه في جمع المال ليس إلا هباءً منثوراً، ولن نأخذ معنا حتى فتات الذهب.أما الوصية الأخيرة: حين ترفعوني على النعش أخرجوا يديَّ من الكفن وأبقوهما مُعلَّقتيْن بالهواء ومفتوحتيْن؛ ليعلم الناس أننا قدمنا إلى هذه الدنيا فارغي الأيدي وسنخرج منها مثل ما دخلناها".لقد تعلَّم الراحل الكبير أحمد الخطيب هذا الدرس منذ بداية حياته، لذا حمل معه إلى دنيا البقاء أعماله الإنسانية، ومواقفه، فكم من حاكم وسياسي ودَّعه الناس بالسخط والدعاء عليه، وكم من شخص من العظماء بأفعالهم شيَّعهم الناس بالدمع والدعاء لهم؛ كي يكونوا بين البررة والقديسين، والخطيب من هؤلاء فهو لم يُخلف عداوات، بل كان مدرسة في المعارضة الوطنية الشريفة والعمل الإنساني، لذا فإن غيابه خسارة كبيرة، لكنها سُنَّة الحياة ولا راد لقضاء الله وقدره.كان أحمد الخطيب من الذين أيقنوا أن ما يبقى للإنسان بعد رحيله هو السيرة العطرة وأعماله الصالحة، ومما أذكره من مآثر هذا الرجل أنه في 23 أكتوبر 1965 أثناء افتتاح دور انعقاد مجلس الأمة، تعرض المغفور له الأمير الشيخ عبدالله السالم، رحمه الله، لوعكة صحية، فهرع إليه الدكتور أحمد الخطيب مُسعفاً، ورافقه إلى بيته، وبعد أن استفاق الشيخ من الغيبوبة ووجد النائب الطبيب إلى جانبه بادره بالقول: "لقد رأيت الآن رجلاً آخر، لديه موقفٌ إنسانيٌّ وحسٌّ وطنيٌّ، غير ذلك الذي نقله إليَّ بعضهم"، وكان يقصد زوار الفجر الذين سعوا على مرِّ السنين إلى تشويه صورة كل من لا يسير وفق ما يريدون.هذا هو السياسي المُحنك والطبيب الماهر الذي تبكيه الكويت اليوم، ولا شكَّ أنه سيبقى في الذاكرة الكويتية مدرسة بالعمل السياسي المُنَزَّه عن المآرب الشَّخصية وأحد الرموز الإنسانية والوطنية.
[email protected]