منوعات
ابن المقفع...مبدع قتلته سخريته
الأربعاء 29 أبريل 2020
50
السياسة
الساخرون على مائدة رمضانإعداد – ريندا حامد: كان سفيان بن معاوية بن يزيد شديد الكراهية لابن المقفع، وينتظر له أي فرصة للنيل منه، لما كان يفعله فيه ابن المقفع من السخرية منه والتندُّر عليه لأنَّ أنفه كان كبيرًا، فكان إذا دخل عليه قال: "السلام عليكما" يقصد أنفه. وكان يسأله عن الشيء بعد الشيء، فإذا أجاب قال له "أخطأت"، ويضحك منه، فلمَّا كثر ذلك على سفيان غضب واشتدَّ غيظه منه، فأضمر سفيان في نفسه أن يعمل على قتله إذا أمكنته من ذلك فرصة، وقد كان يمنعه قرب ابن المقفع من الخليفة، ومكانته في الديوان.هكذا، كان عبد الله ابن المقفع أشهر كتاب العصر العباسي سخرية، وهو فارسيّ الأصل، ولد في عام 106 هجرية، في قرية "جور" الفارسية، ونشأ في البصرة في ولاء "آل الأهتم" وهم معرفون بالبلاغة والفصاحة.خالط الأعراب وأخذ عنهم، حتى كتابة الأشهرعلى الإطلاق "كليلة ودمنة" يعد أهم كتاب في فن الأدب السياسي الساخر والحافل بالإسقاطات والمواقف الساخرة، بل هناك من يعتبره نصًا سياسيًا ساخرًا بامتياز، عبارة عن قصص ساخرة على لسان حيوان، وقد كان السرد على ألسنة البهائم والحوار بطريقة أدبية ممتعة، أسلوبا جديدا لم يعرفه العرب من قبل، ظاهره هزلي وباطنه حكم ومواعظ وإسقاطات سياسية.قال عنه الأديب طه حسين في كتابه "من حديث الشعر والنثر": "وإنما يقرؤهما منا ذوو الثقافة العالية والساذجة والمتوسطة والبسيطة، وكلنا يجد لذة ومتعة فنية"، وهنا يشير إليه هو وصديقه عبد الحميد بن يحيى، كاتب الدولة الأموية الشهير، أن كتاباتهما تمتاز بالسحر والمتعة في نفس الوقت. ورغم ما كان يتمتع به ابن المقفع من سخرية لكنه كان شديد الوفاء والإخلاص واشتهر بطيبته وكرمه، يروى أنَّ صديقه عبد الحميد الكاتب، اختبأ في بيته بعد قتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، لكنَّ رجال الدولة العباسية الناشئة توصَّلوا إليه، ودخلوا عليهما بيت ابن المقفع، وسألوهما: أيُّكما عبد الحميد بن يحيى؟ فقال كلاهما: "أنا"، فقد قَبِل ابن المقفع أن يضحي بنفسه من أجل صاحبه، لكنَّ العباسيِّين عرفوا عبد الحميد الكاتب وأخذوه إلى السفاح.ولم يتميز ابن المقفع فقط بالسخرية والطيبة والكرم، لكنه كان بليغا حكيما وقد وصفه الأدباء بـ "رأس الكتّاب" و"سيد البلاغة"، والتي عرفها هو نفسه بالقول: "البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يُحسن مثلها"، وقد خصص له الكاتب الدكتور أحمد أمين جزءًا مهمًا في كتابه "ضحى الإسلام"، وعدد أسماء المستشرقين الذين بحثوا كتابه الأشهر "كليلة ودمنة"، ثم يقول: "فلو استقصينا ما قالوا، وعمدنا إلى مناقشة آرائهم لاحتاج ذلك إلى كتاب بأكمله". تميز "ابن المقفع" بتعدُّد الثقافات، حيث جمع بين الثقافتين العربيّة والفارسيّة وما يتبعها من حكمة الهنود وفلسفة اليونان، وترجم عن الفارسيّة كتبًا من وضع الهند واليونان منها أدبيّ ومنها فلسفيّ مثل كتب المنطق، فهو عُدّ من أوائل الذين ترجموا كتبًا في هذا العلم، وأوّل من ترجم كتبًا في المنطق لأبي جعفر المنصور.إذا كان كتاب " كليلة ودمنة " نال من الشهرة أعظمها، فإن له كتاباً آخر لم يحظ بالشهرة نفسها وهو "الأدب الصغير والكبير"، وعلى الرغم من أنه كتاب صغير الحجم لكنّه مليء بالفوائد ويزخر بالنصائح العامة للقارئ، ويفسر "ابن المقفع" موضوع كتابه فيقول: "وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفاً فيها عون على عمارة القلوب وصقالها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليلاً على محامد الأمور ومكارم الأخلاق إن شاء الله".وظل ابن المقفع يمارس حياته حتى حانت الفرصة لسفيان بن معاوية فثأر منه أقسى ثأر وأشده تنكيلًا بسبب السخرية التي نالها منه ؛ فقطَّع جسده قطعًا قطعًا ورماه في الفرن، فمات محروقًا إربا إربا في عام 142 هـ، وكانت آخر كلمات ابن المقفع لسفيان: "والله إنَّك لتقتلني؛ فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قُتِل مئة مثلك لَمَا وفُّوا بواحد".