ارحل قبل أن تحترق!
عندما قررت نقل خبرتي العملية من العمل بالقطاع الحكومي، وما تخللها من تجارب، اخترت التعبير من خلال كلمات تصف وتنقل الحال الوظيفي، من أروقة المكاتب إلى متناول الجميع، لذلك اقترحت على إحدى الزميلات تناول موضوع "الاحتراق الوظيفي"، ولا أعلم كيف غاب عني هذا الموضوع، ربما لأنني اعتدت على المحترقين وظيفيا!
"الاحتراق الوظيفي" ليس مصطلحا مجازيا، بل عرّفه المعالج النفسي "HerbertFreudenberger" أنه التكلفة المُرتفعة للإنجاز العالي، والتي تتشكل بتقليص الدافع للاستمرارية للإنجاز الوظيفي نتيجة عوامل عدة، منها انعدام وجود الحافز، وظيفة روتينية غير ممتعة، تكليف الموظف بمهمات وأعباء إضافية.
لماذا احترقنا وظيفيا؟ لأننا تعلمنا منذ صغرنا على الإيثار، وتقديم مصلحة الغير على المصلحة الشخصية، ومصلحة المجتمع على مصلحة الغير.
تربينا على ان نتبع الجملة التي تنص على "كن كالشمعة تحترق من أجل الآخرين فلن يضيع نورك هباء"، فكبرنا على أن نكون الشمعة التي تنير درب الآخرين، وربما يرادف هذه الجملة ما نتداوله بالعامية "سو خير وقطه بحر"، أي لا تنتظر المقابل، إشارة منا الى أن نكون شمعة، برياً وبحرياً.
لكن المعضلة هنا لم نتعلم أن الاحتراق لا بد أن يكون محدد المواضع، والأزمان، والحدود، وألا نكون عرضة للاستغلال من الغير كان ما كان حتى لو كانت الوظيفة.
وللأسف، لم يتم انصاف الموظف "المجتهد" في القطاع الحكومي، ما يُمنح له يُمنح للجميع لذلك فلا يعتبر حافزا، لا يتم ترقيته نظير خبرته وانجازاته، بل يتم ترقية الغير بسبب الأقدمية، ولا يُثاب على إنجاز، بل يُعاقب على اجتهاده، ولا يتم الاعتراف بجهوده، بل يعتبرونها من المسلّمات، بالتالي يشعر بالإرهاق وفقدان الحماسة، وتراجع الأداء، وقلة الإنتاجية لأنه احترق وظيفيا.
جريمة تُرتكب بحق الكوادر الوطنية، سببها الرئيسي الجهات المعنية المسؤولة عن القطاع الحكومي، وقوانينهم المتهالكة التي لا تصلح للتطبيق في وقتنا هذا، فلا يعقل أن يتم احتساب الخبرة بعدد سنوات الوظيفة، ولا يعقل أن يوافق على تعيين موظف في غير نطاق تخصصه لسنوات، ويمنعه من الترقي في الوظيفة لأن شهادة لا تطابق الوصف الوظيفي للإدارة.
لا يعقل أن تكون الزيادة السنوية للموظف عشرة دنانير، ويخصم منها للتأمينات الاجتماعية، ومن غير المنطقي مطالبة الموظف بالإنجاز وتطوير العمل، ولا يتم تطوير الموظف، ومن غير المعقول مطالبة الموظف بالعطاء دون منحه شيئا في المقابل، فالدنيا "أخذ وعطى".
في البداية سلبوا جميع صلاحيات جهة العمل في تكريم وتقدير وتحفيز الموظفين، وسنوا القيود وفرضوا لوائح غير منطقية بعذر الحد من التسيب، وكأنهم جهات تم انشاءها للانتقام وليس للاهتمام.
استذكر هنا مقطع من محاضرة للدكتور أنمار مطاوع بعنوان "تعلم متى ترحل"، في تلك المحاضرة تحدث بأسلوب رشيق عن كيفية مواجهة ضغوط الحياة بمختلف أنواعها، وكيفية معرفة ان وقت الرحيل قد حان، وأقتبس بعضا مما قاله في المحاضرة: "إذا حطوك في لجنة وما أحد يسمع كلامك، تعلم متى ترحل، تقعد في مكان ولا أحد يطالع فيك، تعلم متى ترحل، ساعد وارحل، انصح وارحل، في حالة الإخفاق يجب أن ترحل، عندما تعرف أن دورك قد انتهى، لازم ترحل".
لذلك، لابد من أن نرحل، إن كان المقابل كلمات ثناء فقط لا بد أن نرحل، إن كان عطاؤهم للغير للمحافظة عليهم، ونحن مركونون على الرف تحت شعار "هذا ولدنا نمون عليه" لا بد أن نرحل.
إن لم نتطور شخصيا، ولم تكن هناك فائدة متبادلة لا بد من أن نرحل، لماذا نحترق وظيفيا، وبالتالي نحترق نفسيا واجتماعيا؟ لنرحل ولندعهم يحترقون.
$ كاتبة كويتية
م.أفراح جاسم السعيدي