السبت 03 مايو 2025
30°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الافتتاحية

الجارية للسلطان: أجملُ وطنٍ ما يحكمه العدلُ

Time
الثلاثاء 11 أبريل 2023
View
5
السياسة
عندما يستمعُ الحكام إلى رأي شعوبهم يُوفِّرون على أنفسهم الكثير من المتاعب، ويطلعون مباشرة على أحوال الناس، لذا كانت يومذاك مجالس السلاطين والملوك مفتوحة أمام العامة، ولهذا لم تكن هناك محاباة، أو واسطات، أو أي من مظاهر النفاق والتدليس التي نشاهدها في أغلب، إن لم يكن، في جميع مجالس الملوك والسلاطين اليوم.
في هذا الشأن تُروى حكايةٌ قديمةٌ عن أنَّ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﺴﻼﻃﻴﻦ سمع عن جارية في ﺴﻮﻕ المدينة ﻳﺘﺠﺎﻭﺯ ثمنُها ﺳﻌﺮ 100 ﺟﺎﺭﻳﺔ، ﻓﺄﺭﺳﻞ ﻳﺴﺘﻘﺪﻣﻬﺎ ﻟﻴﺮﻯ ﻣﺎ ﻳُﻤﻴِّﺰﻫﺎ ﻋﻦ ﺳﻮﺍﻫﺎ، وﻠﻤﺎ ﺟﺎﺀﺕ ﻭﻗﻔﺖ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﻭﺷﻤﻮﺧﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﻌﻬﺪْﻩُ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻮﺍﺭﻱ الأخريات، ﻓﺴﺄﻟﻬﺎ: ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺳﻌﺮﻙِ غالٍ ﻳﺎ جارية؟
ﺃﺟﺎﺑﺖ: ﻷﻧﻲ أﺗﻤﻴَّﺰ ﺑﺎﻟﺬﻛﺎﺀ يا سيدي.
ﺃﺛﺎﺭ ﻛﻼﻣُﻬﺎ ﻓﻀول السلطان، فقاﻝ: ﺳﺄﺳﺄﻟﻚِ أسئلة عدة ﻟﻮ أجبتِ عليها سأﻋﺘﻘﻚِ، وإذا ﻟﻢ ﺗﺠﻴبي ﻗﺘﻠﺘﻚِ، ﻓﻮﺍﻓﻘﺖ.
ﺴﺄﻟﻬﺎ: ﻣﺎ ﺃﺟﻤﻞ ﺛﻮﺏ، ﻭﺃﻃﻴﺐ ﺭﻳﺢ، ﻭﺃﺷﻬﻰ ﻃﻌﺎﻡ، ﻭﺃﻧﻌﻢ ﻓﺮﺍﺵ، ﻭﺃﺟﻤﻞ ﺑﻠﺪ؟ ﺍﻟﺘﻔﺘﺖ ﺍﻟﺠﺎﺭﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﻳﻦ في المجلس، ﻭﻗﺎﻟﺖ: ﺣﻀِّﺮﻭﺍ ﻟﻲ ﻣﺘﺎعاً ﻭﻓﺮساً، ﻓﺈﻧﻲ ﻣﻐﺎﺩﺭﺓٌ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺼﺮ، ﻭﺃﻧﺎ ﺣُﺮﺓ.
ﻭﺭﺩﺕ ﻋﻠﻰ أﺳﺌﻠﺔ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ: ﺃﻣﺎ ﺃﺟﻤﻞ ﺛﻮﺏ ﻓﻬﻮ ﻗﻤﻴﺺ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ، ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﻏﻴﺮﻩ فإنه ﻳﺮﺍﻩ ﻣﻨﺎﺳﺒﺎً ﻟﻠﺸﺘﺎﺀ ﻭﺍﻟﺼﻴﻒ، ﺃﻣﺎ ﺃﻃﻴﺐ ﺭﻳﺢ ﻫﻲ ﺭﺍﺋﺤﺔ ﺍﻷﻡ، ﺣﺘﻰ ﻟﻮ كانت نافخة النار في حمام السوق، ﺃﻣﺎ ﺃﺷﻬﻰ ﻃﻌﺎﻡ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺟﻮﻉ، ﻓﺎﻟﺠﺎﺋﻊ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﺍﻟﻴﺎﺑﺲ ﻟﺬﻳﺬاً، ﺃﻣﺎ ﺃﻧﻌﻢ ﻓﺮﺍﺵ ﻣﺎ ﻧﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺑﺎﻟﻚ ﻣﺮﺗﺎﺡ، فالظالم يرى ﻓﺮﺍﺵ ﺍﻟﺬﻫﺐ شوكاً ﻣﻦ تحته.
ﺛﻢ ﺳﺎﺭﺕ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺒﺎﺏ، ﻓﻨﺎﺩﺍﻫﺎ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻟﻢ تجيبي عن ﺳﺆﺍﻟﻲ ﺍلأﺧﻴﺮ!
التفتت ﻭﻗﺎﻟﺖ: أﻣﺎ ﺃﺟﻤﻞ ﺑﻠﺪ ﻫﻮ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﺤﺮ، ﺍﻟﺬﻱ يحكمه العدل والحكمة وسعة الصدر، والحزم عندما يتطلب الأمر ذلك. ولأنها ﺃﺟﺎﺩﺕ ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ ﻓﻨﺎﻟﺖ ﺣﺮﻳﺘﻬﺎ.
صحيح أن الجارية أعتقت نفسها، لكنها أيضاً نبهت السلطان إلى ما يُمكن أن يُعانيه شعبُهُ حين وضعته أمام الحقيقة، وهي عملت على إيصال المعلومة إلى كل الموجودين في بلاط السلطان؛ لكي يقولوا الحقائق كما هي؛ لأن البطانة الصالحة هي من تصدق مع الحكام، فلا تزيف أو تدلس، أو تعمل من أجل مصلحته على حساب الدولة، وفي العصر الحديث ثمة الكثير من المنافقين الذين يُزينون للقادة الأمور على غير حقيقتها.
في هذا الشأن قال عبد الرحمن بن خلدون: "انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، يؤدي إلى الانتقال من عزّ الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سَوْرة عصبية الدولة بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع".
وفي عرفه أيضاً أن "الدولة والملك والعمران (المجتمع)، هي العناصر الحافظة لوجود المجموع"، وقال: "قد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران والعُمران دون الدولة، فإن الملك متعذّر؛ لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع"؛ لأن مهمة السلطان الأساسية، في نظره، حماية المجتمع، والعمل على تعزيز استقراره.
على هذا النحو يُمكن النظر إلى أحوال أي مجتمع، فإنْ كان سليماً يعني أن الدولة قوية، وإنْ تفشى فيه الفساد والمحسوبيات والمُحاباة، فسد، وعندها تبدأ الدولة في طريق الانهيار، ولقد رأينا نماذج عربية عدة، حين غابت عنها فطنة وحكمة وعدل الحاكم إذ تسبَّب ذلك بخرابها.

أحمد الجارالله
آخر الأخبار