الثلاثاء 10 يونيو 2025
30°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الأخيرة

الحج قديماً... الذاهب مفقود والعائد مولود

Time
السبت 24 يوليو 2021
View
5
السياسة
محمد الفوزان

كانت تبدو الرحلة الى الديار المقدسة مخيفة رغم مشاهد الفرح الغامرة على الحجاج قديما،اذ تنتابهم مشاعرالخوف والقلق من المجهول، بل من المخاطر التي جعلت الذاهبين إلى الحج في تلك الأزمنة القديمة يُقال في شأنهم: الذاهب مفقود والعائد مولود.
كان على الحاج أن يودّع أهله، ويكتب وصيته، فربما لن يعود، ولن يعرفوا مثواه!
تلك المعاناة دوّنها عدد من الرحّالة الأقدمين، منهم الأندلسي ابن جبير البلنسي الذي جاء حاجًا في زمن صلاح الدين الأيوبي سنة 579هـ/1183م، ورأى بنفسه ما كان يلقاه الحجاج من سكان ميناء "عيذاب"، وهم من البجاة السودان، ساكني الجبال، فيستأجر الحجاج منهم الجمال، ويسلكون بهم الصحراء المصرية الشرقية القاحلة، فيصبح الحاج معهم كالأسير!
يقول:" فربما ذهب أكثرهم عطشًا وحصلوا (أي الجمّالين) على ما يُخلّفه من نفقة أو سواها"، بل إن الذين يؤثرون أن يعبروا الصحراء الشرقية للوصول إلى ميناء "عيذاب" على الحدود المصرية- السودانية اليوم، كانوا يصلون في صورة مروّعة من الجوع والعطش، بل يصف ابن جبير بعضهم"كأنه منَشر من كفن، شاهدنا منهم مُدّة مقامنا أقوامًا قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة، وهيئاتهم المتغيرة آيةً للمتوسّمين".
لم تقف معاناة الحجاج في العصر الوسيط عند ذلك الحد من قسوة الحمّالين وغلظتهم، إنما كان البحر مهلكة كما البر، وكما كان البُجاة السودان المتحكمون في رقاب حجاج مصر والمغرب في الصحراء، كان بعض أصحاب المراكب والسفن في ميناء "عيذاب"يتحكم برقاب الحجيج في البحر، فقد كانوا يكدسونهم في المراكب تكديسا طلبا للربح السريع والوفير على حساب أرواح هؤلاء البؤساء.
يقول ابن جبير في ذلك:"ولأهل"عيذاب" في الحُجّاج أحكام الطواغيت، وذلك أنهم يشحنون بهم الجلاب (المراكب) حتى يجلس بعضهم على بعض، وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة"، فوق ذلك، حينما يمر الحجاج إلى العدوة الأخرى من البحر الأحمر، كانت السلطات في مكة وحتى زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي تفرض على الحجّاج القادمين من المغرب خصوصا ضريبة مرهقة، ومن لم يكن يدفعها لم يكن يُسمح له بالمرور والحج، يقول أبو شامة في تاريخه:"كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس، بما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل ذلك حُبس(مُنع) حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيرا لا يملك شيئا".
وبعد معاناة استمرت عشرات السنين بفرض هذه الضريبة على الحجاج، ومعاناة الفقراء منهم"رأى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إسقاط ذلك، ويعوض عنه أمير مكة، فقرّر معه أن يحمل إليه في كل عام مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك وقوفا، وخلّد بها إلى قيام الساعة معروفا، فانبسطت لذلك النفوس، وزاد السرور، وزال البؤس، وصار يرسل أيضا للمجاورين بالحرمين من الفقهاء والشرفاء".
بلغت صعوبة الحج، وخطورة الطريق أن بعض علماء المغرب وشنقيط كانوا يفتون بإسقاط تلك الفريضة، وحتى زمن متأخر من نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
يقول محمد ألمامي الشنقيطي:"إن فريضة الحج ساقطة لأسباب عديدة في تلك المدة عن أكثر الشناقطة"، ويفصّل ألمامي هذه الأسباب في قوله إن"قيل كيف يسقط شيء جماعي بمفسدة، قلت الحج جماعي الوجوب وأسقطه كثير من العلماء للمخاطرة بالنفوس على أهل المغرب، وأجمع المحققون ممن حج من علماء المغاربة والمصريين أن السفر في هذا الزمان للحج لا يجوز لا لضرورة ولا لغيره، وذلك لما يقع من تضييع الصلوات الخمس، والمخاطرة بالنفس والأموال والفروج والله أعلم".
بل كان نجاح فريضة الحج لأهل شنقيط (موريتانيا) من بلاد الصحراء المغربية الكبرى في تلك الأزمنة يعد في ذاته استثناءً، نظرا الى كثرة فشل رحلات الحج التي كانت بسبب الأمراض، أو هلاك الحجاج في الطريق، وعُدت رحلات الحج الناجحة تلك بمثابة "الكرامات" التي نُسبت لأصحابها، مثل التي نسبت للشيخ "ماء العينين" الذي كان من أوائل من استطاعوا العودة سالمين من رحلتهم للحج، وقد ذكره التاريخ كأحد هؤلاء الناجين "أصحاب الكرامات".

إمام وخطيب


[email protected]
آخر الأخبار