الهجرة النبوية حضارة وانتماء وتضحية وفداء ... انطلقت منها مبادئ الخير والتآخي والسلام

لم تكن الاحتياطات التي اتخذها الرسول في الهجرة خوفاً على نفسه إنما كانت تشريعاً لكل المسلمين في كل زمان ومكان

كانت هجرة الرسول حفاظاً على الوطن وليس ضياعاً له بدليل أنه عاد إليه عزيز الجانب منيع القوة بفضل الدين الذي أقام صرحه ودولته بالقيم الإنسانية ومبادئ الأخلاق

ها نحن في رحاب ذكرى عزيزة وغالية لدى كل المسلمين. ألا وهي ذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، إنها ذكرى مجيدة وخالدة تحمل في طياتها أعظم الدروس التي يمتد عطاؤها المثمر على مدى الأجيال وبلا حدود في كل العصور.
إنها الذكرى الفريدة التي أرست قواعد الحضارة الإنسانية والمبادئ الأخلاقية الفاضلة. إنها الذكرى التي تميزت بالولاء الصادق والتضحية والوفاءوبكل معاني الإيثار والولاء. والتسامح والاخاء. إنها ذكرى تأسيس دولة الخير والمحبة والسلام، نعرض فيما يلي جانبا من قبسات هذه الذكرى المجيدة.

حقيقة الهجرة ومعانيها:
الهجرة النبوية الشريفة حدث مهم في تاريخ الإنسانية. ومحطة بارزة في التغيير الايجابي، انطلقت منها حضارة عظيمة أرست قواعد الأمن والخير ومبادئ التآخي والسلام.
لقد أظهرت الهجرة قيما إنسانية ما كان لها أن تظهر، لولا عظمة الإسلام ومقاصده.
وقدمت للبشرية نماذج اخلاقية رائعة ما كان لها ان تخرج للوجود لولا لاعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه خير خلق الله بلغ الرسالة وأدى الامانة(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
• من جهة أخرى نلمح حقيقة الهجرة في سنة الله تعالى المتمثلة في أن العقيدة السليمة وقداسة الدين فوق كل شيء ، فلا قيمة للأرض والمال والوطن والجاه والسلطان إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب والزوال، لذلك فرض الله على عباده ان يضحوا بكل ذلك في سبيل العقيدة... ويهاجروا للحفاظ على العزة وسلامة الدين، لقد كانت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين حقيقة قرآنية فإن الهدف الرئيسي للهجرة النبوية كان الخروج بالمسلمين من حالة الخوف والاستضعاف إلى حالة الأمن والتمكين، لذلك كانت الهجرة النبوية من مكة (دار الاستضعاف) الى المدينة المنورة (دار التمكين) هي الحد الفاصل في الاسلام بين مرحلة الاستضعاف والهوان الى مرحلة العزة والتمكين.

العبر والدروس
لا أحد ينكر ان لهذا الحدث العظيم دروساً وعبراً لابد ان يقف عندها كل مسلم، ليتعلم منها ويتمعن في النظر اليها لتكون له نورا ونبراسا في حياته، ومما لاشك فيه انه من الصعب ان نحصر عدد الدروس التي نستمدها من الهجرة النبوية الشريفة، ولكننا نعرض هنا اهم هذه العبر حتى تكون لنا نبراسا في حياتنا:
1 - الثقة بالله في السراء والضراء: ونرى ذلك حينما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة مكرها فلم يجزع، ولم يذل ، ولم يفقد ثقته بربه،ولما نصره الله سبحانه وتعالى بالاسلام وظهور المسلمين لم يزده زهوا وغرورا، فعيشته يوم أخرج من مكة كارها كعيشته يوم دخلها فاتحا ظافرا، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قصير نايحة تبوك.
2 -إن من حفظ الله حفظه الله: ويؤخذ هذا المعني من حال النبي صلى الله عليه وسلم لما اؤتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليما معافى.
3 - ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة: ذلك في جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه لما كان في الغار. وذلك لما قال أبو بكر: والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر الى موقع قدمه لأبصرنا. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم مطمئنا له: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما). فهذا مثل من أمثله الصدق والثبات، والثقة بالله، والإتكال عليه.
4 - اليقين بان العاقبة للتقوى وللمتقين: فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال واضمحلال. ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درسا واضحا في ان العاقبة للتقوى وللمتقين.
5 - إن من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه: فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله، أعطاهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملكهم شرقها وغربها.
6 - الأخذ بالاسباب والتوكل على الله: ويتضح لنا هذا عندما وكل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب للنوم مكانه، واصطحب أبي بكر معه، حيث لم يهاجرا إلى المدينة مع المسلمين.
بالاضافة الى استعانة صلى الله عليه وسلم بعبدالله بن أريقط الليثي وكان خبيرا ماهراً بالطريق. ويتجلي كذلك في كتم أسرار مسيرة.
7 - تعظيم لدور المرأة في الإسلام: ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمرالهجرة، فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سر الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزا كاملا.
8 - تعظيم دور الشباب في نصرة الحق: ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة.
ويتجلى من خلال ما قام به عبدالله بن أبي بكر، حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر.
9- حصول الأخوة وذوبان العصبيات: ويتجلى ذلك عندما قام الرسول الكريم بالمؤاخاة بين الانصار والمهاجرين وايثار الانصار تجاه المهاجرين والذي يتجلى ذلك في ان كان الفرد من الانصار يقول لاخيه المهاجر ان لي زوجتين اطلق واحدة وتتزوجها انت.
10 - دروس الهجرة النبوية الشريفة أكثر وأكثر من أن تعد وتحصى نكتفي بهذه اللقطات التي تفيء طريق الاجيال المتعاقبة:
ذكرى تنير لنا الطريق جلية وتعيدنا نحو السبيل الواصل، كم من دروس تستفاد وعبرة في هجرة الهادي الكريم الباذل ، كم من دروس في الجهاد بليغة تزهو بها الدنيا بأعظم كامل ستظل ذكراها تفجر عزمنا وتثير همتنا بدون تخاذل.
قف أيها التاريخ سجل صفحة
غراء تنطق بالخلود الكامل
ردد على الاسماع هجرة أحمد
زين بها جيد الزمان العاطل
فعسى ترد المسلمين لدينهم
وتعيدهم نحو الصراط الفاضل
وتقود ركب حضارة منهارة
كادت تزج بنا لأسفل سافل