كتبت ـ نورا حافظ:واصل المسلمون أثناء الخلافة الراشدة فتوحاتهم في الشام الواقع تحت الحكم البيزنطي، والآن وبعد سقوط حصون ومدن فى أيدى المسلمين وانتصارهم فى معارك كبيرة مثل بصرى واليرموك وغيرهما، أتى الدور على المدينة التي اكرمها الله باحتضان "بيت المقدس" مسرى النبي وأولى القبلتين، فقد كان فتحها يحمل هدفاً معنوياً وروحياً عزيزاً على قلوب المسلمين، هذا فضلاً عن موقعها الجغرافي وقوة تحصينها ووجود جيش رومي كبير بها، وأيضاً لأنها أصبحت وجهة الفارين والمهزومين من الجند أمام المسلمين، كل ذلك جعلها القاعدة البيزنطية الأهم في الشام، فأصبحت تمثل خطرا مؤكدا وتعوق استكمال الفتوحات، فكيف استسلمت؟ كان عمرو بن العاص قائد الجيش المكلف بفتح بيت المقدس، حاصرها عام 16 للهجرة دون جدوى، فطلب الصلح على الجزية، ولكن الأرطبون وهو الاسم الذي عُرف به والي المدينة - رفض إيمانا منه أنه فى الموقف الأقوى، فاجتمعت على المسلمين ظروف صعبة، الرومان يضربونهم بالمنجنيق، وفصل الشتاء القارس في تلك المناطق يقترب مؤذنا بانهمار المطر غزيرا وكذلك الثلوج، وهو مالم يألفوه في بيئتهم الصحراوية الحارة، فبدا الامر يدعو لليأس، لكن المسلمين صمدوا وتمسكوا بالأمل، وأرسل عمرو إلى ابن الخطاب في المدينة يسأله المشورة و الدعم، تصرف عمر بحكمة وعبقرية حربية، واهتدى الى خطة لتشتيت الرومان على الجبهة الشامية، فيغلق بذلك طرق الدعم لبيت المقدس، وقرر ان يتجه أبو عبيدة بن الجراح و معه خالد بن الوليد بعد فتوحاتهما فى شمال بلاد الشام الى مدينة الجابية لحصارها وقطع المدد منها إلى بيت المقدس، كما أرسل معاوية بن أبى سفيان إلى قيسارية لحصارها، فقد ادرك ان سقوط المدن التي تحيط ببيت المقدس سيضعف من معنويات الروم ويدخل الإحباط الى نفوسهم.حضر أبو عبيدة وجيشه إلى بيت المقدس دعما لعمرو بن العاص، وتولى القيادة العامة للجيش، وبعد حصار دام عدة اشهر، اقتنعت حامية بيت المقدس الرومية أن السقوط بات وشيكا، عندها هرب الأرطبون خفية إلى مصر مع بعض جنده للاحتماء بها وتنظيم الجيش وتلقى المدد من هرقل، استعدادا لمواجـــــهة حاسمة مع جــيش المسلمين في اهم معاقلهم. وفي الاثناء بدأت مفاوضات الصلح بين أبى عبيدة بن الجراح وبطريرك بيت المقدس، وكان العرض: الإسلام او الجزية، وإلا فالعودة إلى الحرب، رد البطريرك على القائد الإسلامي بإجابة غريبة توردها كتب المؤرخين المسلمين، قائلا: "إن فى كتبهم وصفا للفاتح وأنه لا ينطبق عليك، ولن يسلم المدينة إلا لهذا الرجل، فقال أبو عبيدة: صفه لي، فلما وصفه، قال: فذاك عمر بن الخطاب الذي حضر لا يصاحبه سوى خادم واحد على بعير واحد يتبادله معه وفي مشهد مهيب وُقعت الاتفاقية بين عمر والبطريرك ممثلا عن المدينة، وكان من شروطها بناء على طلب البطريرك ألا يدخل المدينة يهودي لسابق مصائبهم في أي مكان يحلون به، أما عمر فقد أّمنهم على أرواحهم وأموالهم وكنائسهم لا يُجبرون على ترك دينهم ويؤدون شعائرهم في سلام وأمان، وبعد أن تسلم مفاتيح المدينة، مكث بها عدة أيام تفقد الحال خلالها، وأمر بإعادة بناء المسجد الأقصى ثم قفل عائدا إلى المدينة في مشهد نأمل ان يتكرر قريبا.