أحمد الدواسسمع محمد الفقير طارقاً يطرق الباب في ليلة ظلماء، فإذا برجل عليه عباءة سوداء كسواد الليل، مد يده إليه بصرةٍ فيها نقود ثم أدبر مهرولاً. تكرر الأمر مرات عدة، فأراد محمد أن يعرف صاحبه فأمسك بالصرة واليد، وحاول المجهول التخلص، فلم يستطع، وعرف محمد صاحبه، إنه أمير البلاد، يومذاك، الشيخ سالم بن مبارك بن صباح، تأثر محمد أن يكون الأميرالمُهاب بهذه الصفة الرقيقة ليتفقده، ولا شك انه يتفقد أمثاله.ارتبط أهل الكويت بعقد اجتماعي بينهم وبين أسرة الحكم منذ ما يزيد عن ثلاثمئة سنة، ومازال مستمراً، وكنا ومازلنا نمتلك رصيدا كبيرا من التآلف والوحدة كشعب واحد، سّنة وشيعة وحضراً وبدواً، وتخلل تاريخنا كثير من الأحداث والكوارث الطبيعية، من أمطار وأعاصير وأمراض ومجاعات، وفي المحن والأزمات تضرر الكويتيون لكنهم تخطوا ذلك بالتراحم ومساعدة بعضهم بعضا، فتواصلوا حتى بعود الكبريت، مثلاً، كأن يطلب الجار من جاره عود كبريت ليشعل ناراً.اعتبر كثير من الناس الكويت بلداً آمناً مستقراً، وموطناً يلجأ إليه الغريب الخائف على نفسه، ما شجع على المجيء إليها لكسب الرزق، فهناك مثلاً من فر من الإحساء ولجأ إليها هربا من ظلم الأتراك، وهناك من جاء إليها من عمان وبلاد فارس، فقال العماني" لو كان دمي يتكلم لقال أنا كويتي عماني".وقال أحد الإيرانيين:"ان الكويت أغنت الجميع، دخلتها معي الصبر وحصلنا على الخير فقد بنينا بيوتاً في إيران ودرّسنا أولادنا وزوجناهم من خيرات الكويت.وهناك أيضاً من حلمَ بإنشاء مطبعة في غزة فجاء الى الكويت لتأمين تكاليفها فأثار دهشته وإعجابه الانفتاح الفكري والسياسي فيها، رغم تنوع مذاهبهم الدينية، وتفاوت أحوالهم الاجتماعية فهم يعيشون في سلام ومودة، أما الانفتاح السياسي فكان يتجسد في شواهد ملموسة بعدم وجود جهاز للمباحث السياسية، ولجوء الكثير من أعضاء حزب "تودة" الشيوعي الإيراني الى الكويت بعد انقلاب الجنرال زاهدي على حكومة مصدق، كما لجأ إليها اعضاء من جماعة "الإخوان المسلمين" الملاحقين في مصر في عهد عبد الناصر، ومما أثار دهشته أيضاً هو عرض كتاب "رأس المال" لكارل ماركس الشيوعي في واجهة المكتبات في شارع الجهراء وساحة الصفاة.كذلك ترك الأرمني جاك اكوب برداقجيان بلاده بسبب الظروف الدامية وضياع الأرض في منتصف الخمسينات من القرن الماضي واستقلته الطائرة الى الكويت حيث هبط في مطار النزهة، وكان أرضا ترابية ومبنى متواضعاً صغيراً من صفائح معدنية، فقال:" جئت لابني مستقبلي ولتحقيق آمالي، وكنا نسمع عن الكويت أنها مستقرة وآمنة، ومن يعمل فيها بإخلاص يضمن مستقبله ومستقبل أولاده.هناك أيضاً الألماني جورج دزيرزن الذي فقد والده وإخوته في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية فقد عمل في شركة "فولكس واغن " التي انتدبته للكويت فقطع رحلة بالطائرة مدتها أكثر من يومين، وسكن مثل الكويتيين في بيت بسيط، ونام صيفاً على سطح البيت، اصطحبه بعض الكويتيين لحضور الديوانيات ما جعله يشعر بالراحة النفسية، ووجد في الكويتيين صفات فاضلة، كالقناعة الى جانب صفات أخرى فقال:"لقد كنت اسمع الكويتي يحمد الله كثيراً، ويكتفي بما لديه من مال فلا يطلب المزيد.تمنى هذا الألماني بعد مضي نصف قرن أن يعيش بقية عمره على أرض الكويت ويُدفن فيها.فليس بالكويت أنهار وزراعة، فالعادة أن الناس يستوطنون جوار الأنهار حتى تستمر حياتهم، لكن كان فيها الأمن والاستقرار، والمحبة المتبادلة بين الحاكم والرعية، ولما استقلت الكويت لم تبخل على العرب وغيرهم، لنحمد الله على نعمه، ولنحافظ على بلدنا آمناً مستقراً، فكثير من الشعوب حالياً تعاني القمع والفقر والأزمات.
[email protected]