حماقة عبدالرحمن ابن المنصور أشعلت الفتنة في الأندلس
قصص إسلامية
كان هشام المؤيد بن المستنصر في الثانية عشرة من عمره حين ارتقى سدة العرش، وكانت الى جواره أمه صبح البشكنجية وصية على ولدها الخليفة القاصر.
على أن القوة الحقيقية كانت بيد رجلين، الأول جعفر بن عثمان المصحفي الحاجب، وقائد الشرطة محمد بن أبي عامر الذي كان على صلة وثيقة بصبح حين كان وكيلا لأعمال وأملاك ولدها هشام الثاني المؤيّد.
وإثر تنافس محموم بين الرجلين، تمكن محمد بن أبي عامر من استصدار مرسوم من الخليفة القاصر بمساعدة من أمه، يأمر فيه بعزل المصحفي وسجنه سنة 371 هجرية، وهو ما تم له، ثم أمر ابن أبي عامر بعدما استتب له الأمر، بإقصاء صبح حليفته السابقة، والحجر على ولدها هشام المؤيّد، ولُقب بالمنصور، ودُعي له على المنابر، وبهذا أطلت الدولة العامرية برأسها في الأندلس، منذ تلك اللحظة ولمدة ربع قرن بوصاية على الأمويين تشبه ما قام به البويهيون والسلاجقة في المشرق على بني العباس.
من خَلْف ستار الخلافة الأموية ظلَّ الحاجب المنصور بن أبي عامر يحكم الأندلس ابتداءً من سنة (366هـ= 976م)، وقد تمكّن المنصور من قيادة الأندلس ببراعة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، واتسعت غزواته وفتوحاته في الشمال، حتى إنه حين وفاته قد جمع غبار تلك المعارك التي بلغت أكثر من خمسين غزوة وأوصى أن تنثر على كفنه.
وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولَّى الحجابة بعد وفاة والده إلى أن وافته المنية سنة (399هـ= 1009م) أي سبع سنوات متصلة، سار فيها على نهج أبيه في تولِّي حُكم البلاد، فكان يُجاهد في بلاد أعداء المسلمين كل عام مرَّة أو مرَّتين، كل هذا وهو -أيضًا- تحت غطاء الخلافة الأموية في الأندلس.
في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة، كان الخليفة هشام بن الحكم (هشام المؤيد) قد بلغ من العمر 38 عامًا، ومع ذلك لم يطلب الحُكم، ولم يحاول قط أن يستردّ نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان قد تعوَّد على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده.
في سنة (399هـ= 1009م) توفي الحاجب المظفر عبدالملك، فتولَّى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فإضافة إلى أن أُمَّه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًّا ماجنًا فاسقًا، شَرَّابًا للخمر، فعَّالاً للزنا، كثير المنكرات، فكرهه الناس في الأندلس، وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قَبْلُ عند العامريين، ما أشعل الفتنة في البلاد، وهو أنه أجبر الخليفة هشام المؤيد أن يجعله وليًّا للعهد من بعده، وبذلك لن يُصبح الأمر من خَلْفِ ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولِّي والده محمد بن أبي عامر، أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجَّ بنو أمية لهذا الأمر، وغضبوا، لكن لم تكن لهم قدرة على ردِّ فعل، خصوصا أن عبد الرحمن قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين، وفي يد البربر الموالين له الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور.
ومع كل هذا الفسق الذي كان يعيشه عبد الرحمن إلا أن الشعب كان قد تعوَّد حياة الجهاد، والخروج في سبيل الله كل عام، فلمَّا خرج عبدالرحمن على رأس جيش إلى الشمال، انتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يُغَيِّرُوا من الأمر، فذهبوا إلى هشام المؤيد في قصره وخلعوه بالقوَّة، وعَيَّنُوا مكانه رجلاً من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وما إن طار الخبر إلى عبد الرحمن حتى بدأت الجموع التي معه تنفضُّ من حوله شيئًا فشيئًا، فلمَّا دخل قُرْطُبَة كان الناس قد انفضوا عنه، وانحازوا إلى محمد بن هشام الذي تلقَّب بـ"المهدي"، ثم ما لبث أن أرسل إليه المهدي جماعة قبضوا عليه وقتلوه، وأرسلوا إليه رأسه.
وتقول بعض الروايات إنه التجأ إلى دَيْر فأعطاه أحد رهبانه طعامًا وشرابًا، ثم عثر عليه رجال بني أمية سكرانا، فأظهر الخوف والجزع، وادعى دخوله طاعة المهدي، فلم يشفع له ذلك فقتلوه.
واشتعلت الثورات في الأندلس، فكأنَّ مقتل عبد الرحمن واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قُتِلَ ابن المنصور انفرط العقد تمامًا في بلاد الأندلس، وبدأت الثورات تكثر والمكائد والمؤامرات تتوالى، وبدأت البلاد تتفتت وتتقسّم إلى دويلات متناثرة لا قوة فيها ولا شوكة، ما جعل أعداء المسلمين يتحكمون فيها ويسيطرون عليها.
محمد الفوزان