الأولى
حين تكون الجارية أكثر حكمة من السلاطين: أفضل الأوطان مَنْ لا يحكمها جهلة
السبت 07 أغسطس 2021
5
السياسة
أحمد الجاراللهثمة في التراث العربي حكايات فيها عِبرٌ كثيرة عما يمكن أن يتسبب به جهل حكام يعتلون مناصبهم صدفة، فيما هم لسيوا أهلاً لها، ومن تلك القصص ما يروى عن أحد ﺍﻟﺴﻼﻃﻴﻦ أنه سمع عن جارية في ﺍﻟﺴﻮﻕ يفوق ﺳﻌﺮﻫﺎ ثمن 100 من أمثالها، ﻓﺄﺭﺳﻞ ﻳﺴﺘﻘﺪﻣﻬﺎ ﻟﻴﺮﻯ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰﻫﺎ ﻋﻦ ﺳﻮﺍﻫﺎ، ولما ﻭﻗﻔﺖ ﺃﻣﺎﻣﻪ رأى ﺷﻤﻮﺧﺎً فيها ﻟﻢ ﻳﻌﻬﺪﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻮﺍﺭﻱ ﺍﻷﺧﺮﻳﺎﺕ، ﻓﺴﺄﻟﻬﺎ: ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺳﻌﺮﻙِ ﻏﺎل ﻳﺎ ﻓﺘﺎﺓ؟ﺃﺟﺎﺑﺖ: ﻷﻧني أﺗﻤﻴﺰ ﺑﺎﻟﺬﻛﺎﺀ.ﺃﺛﺎﺭ ﻛﻼﻣﻬﺎ ﻓﻀﻮﻟﻪ، حينها قال: ﺳﺄﺳﺄﻟﻚِ بضعة أسئلة إذا كان جوابك صحيحا ﺃﻋﺘﻘﺘﻚِ، وإذا كان خطأ ﻗﺘﻠﺘﻚِ، ﻓﻮﺍﻓﻘﺖ.فقال: ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃﺟﻤﻞ ﺛﻮﺏ، ﻭﺃﻃﻴﺐ ﺭﻳﺢ، ﻭﺃﺷﻬﻰ ﻃﻌﺎﻡ ﻭﺃﻧﻌﻢ ﻓﺮﺍﺵ، ﻭافضل ﺑﻠﺪ؟ﺍﻟﺘﻔﺘﺖ ﺍﻟﺠﺎﺭﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﻳﻦ ﻭﻗﺎﻟﺖ: ﺣﻀﺮﻭﺍ لي متاعاً وفرساً فإنني ﻣﻐﺎﺩﺭﺓٌ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺼﺮ ﺣُﺮﺓ، وتوجهت إلى السلطان قائلة: ﺃﺟﻤﻞ ﺛﻮﺏ ﻗﻤﻴﺺ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ، ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﻏﻴﺮﻩ فهو ﻳﺮﺍﻩ ﻣﻨﺎﺳﺒﺎً ﻟﻠﺸﺘﺎﺀ ﻭﺍﻟﺼﻴﻒ، ﺃﻣﺎ ﺃﻃﻴﺐ ﺭﻳﺢ فرائحة ﺍﻷﻡ، حتى ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﺎﻓﺨﺔ ﺍﻟﻨﺎﺭ في ﺣﻤﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﻕ، ﺃﻣﺎ أشهى ﻃﻌﺎﻡ فما ﻛﺎﻥ على ﺟﻮﻉ، ذلك أن اﻟﺠﺎﺋﻊ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﺍﻟﻴﺎﺑﺲ ﻟﺬﻳﺬا، ﺃﻣﺎ ﺃﻧﻌﻢ ﻓﺮﺍﺵ فما ﻧﻤﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺑﺎﻟﻚ ﻣﺮﺗﺎﺡ، ﻓﻠﻮ ﻛﻨﺖ ظالماً ﻟﺮﺃﻳﺖ ﻓﺮﺍﺵ ﺍﻟﺬﻫﺐ شوكاً ﺗﺤﺘﻚ.ﺛﻢ ﺳﺎﺭﺕ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺒﺎﺏ، ﻓﻨﺎﺩﺍﻫﺎ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ: ماذا عن سؤالي الأخير؟اﻟﺘﻔﺘﺖ نحوه ﻭﻗﺎﻟﺖ: أﻣﺎ افضل ﺑﻠﺪ فهو ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﺤﺮ، ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺤﻜﻤﻪ ﺍﻟﺠﻬﻠﺔ.ﺃﺟﺎﺩﺕ الجارية بجوابها ﻓﻨﺎﻟﺖ ﺣﺮﻳﺘﻬﺎ.ﻧﻌﻢ، إن ﺃﺟﻤﻞ ﺑﻠﺪ، ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺤﻜﻤﻪ ﺍﻟﺠﻬﻠﺔ، وفي هذا الشأن يحفل التاريخ، الحديث والقديم، بنماذج من أولئك الحكام الذين دمر جهلهم أوطانهم، فمن القدماء الإمبراطور الروماني المجنون نيرون، إذ في نزوة من نزواته رغب في بناء قصر جديد أطلق عليه "البيت الذهبي"، وكان الهدف منه أن يكون مقراً للحفلات والعربدة، فأمر بإحراق روما بمن فيها كي يتسنى له إعادة تخطيطها من جديد ليكون ذلك القصر درتها، ويقال إن نيرون خلال الأيام الستة للحريق كان يجلس على تلة مشرفة على المدينة، لكن أمام هول الكارثة ثار الرومانيون عليه واقتحموا قصره وقتلوه شر قتلة.تتشابه قصة نيرون في التاريخ الحديث مع سيرة هتلر الذي أراد اصطفاء العرق الآري كنخبة في المجتمع، فأقدم على حرق اليهود وعدد من الأقليات الأوروبية، ما أدى إلى إشعال حرب عالمية راح ضحيتها نحو 75 مليون نسمة، وللأسف أن هذه النزعة العدوانية استحوذت على كثير من الحكام، ومنهم معمر القذافي الذي أخذه جنون العظمة إلى أقصى درجات القمع والنرجسية، فجعل نفسه ملك ملوك أفريقيا، لكن كانت نهايته في أحد مجاري المياه المبتذلة حين ألقى الثوار القبض عليه.يروى بين الليبيين أن في التظاهرات التي أعقبت نجاح انقلاب القذافي على الملك الراحل إدريس السنوسي، كانوا يهتفون "حكم إبليس ولا إدريس"، وحين سمع السنوسي ذلك دعا في صلاته لأن يناولهم الله، عز وجل، حكم إبليس فكانت تلك الدعوة مستجابة ولو بعد حين، لأن الله يمهل ولا يهمل.ثمة حكام يتصورون أنهم مخلّدون في مناصبهم، وهم فوق المحاسبة، فيمارسون كل الموبقات والنزوات الشخصية المعيبة ويمعنون بالقمع والتنكيل، فيبدأ تحلل الشعب من القيم الأخلاقية، فتكثر الملل والنحل والعصابات والأحزاب والقبائل، ويتسيد الجهلة الناس الذين هم على دين ملوكهم، لكن هذا لا يعني صبرهم طويلاً على تلك الحال، لأن الفقر والذل والبؤس أمهر الطباخين للثورة.لذلك، حين يصبح ثوب الفقير أغلى ما يملك، ويزحف الجوع حتى يرى الناس الخبز اليابس ألذ الأطعمة، حينها تصبح الأوطان سجوناً كبيرة، فتشتعل الثورة على ذاك الوضع. في حاضرنا اليوم هناك دول كثيرة فاقت فيها ديكتاتورية بعض الحكام الجهلة التصور، ما يهدد هذه الأمة بمزيد من دمار دولها وسيادة التخلف، لذا يبقى الأمل أن يتنبه أولئك الحكام إلى واقعهم ويستمعوا إلى صوت العقل، حتى لا نترحم على تلك الجارية التي رسمت منذ قرون مسار الدول التي تنتحر بأيدي حكامها.