إعداد - نورة حافظ:على مر الأزمنة، تأتي حضارات وتنتهي، لتحل محلها حضارات أخرى، وكم من حضارات زالت ولم يعد لها وجود، وزالت معها اسماؤها وشعوبها، وقد تناول القرآن بعض هذه الحضارات ولولاه لما عرف الكثيرون عنها شيئا، يقول تبارك وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص 58]. وفي هذه الحلقات اليومية تتناول " السياسة " قصص هذه الحضارات والشعوب التي ذكرها القرآن في آياته الخالدة.قال تعالى: "وَرَبُّكَ اَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّماواتِ وَالْاَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ وَّآتَيْنَا دَاوؤدَ زَبُوْرًا" (الإسراء: 55)يعطي الله ما يشاء لمن يشاء، صاحب الدنيا والآخرة، فقد جمع لنبيه داود الدنيا فجعله ملكا مطاعا، وأعطاه الآخرة فجعله نبيا وأرسله بالزبور لهداية بني إسرائيل، يرجع نسب داود إلى يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم خليل الله وأبو الأنبياء عليهم السلام، أي أنه نبي، من نسل أنبياء.
تبدأ قصة داوود عندما كانت المعركة مشتعلة بين جيش طالوت المؤمن وجيش جالوت من العماليق الكفار، فقد استأذن شاب صغير السن من الملك طالوت أن يسمح له بمبارزة جالوت الجبار، كان هذا الشاب داود عليه السلام، أشفق الملك عليه ولكن مع إصرار داود سمح له، تقدم داود بثقة المؤمن بنصر الله القريب، فرمى جالوت بحجر بين عينيه فسقط الجبار، فأسرع إليه داود وقتله وكان النصر حليف المؤمنين، وهلك جيش الظالمين ليكونوا عبرة لمن يعتبر. كان جهاد داود في سبيل إعلاء دين الله في الأرض، مكن الله له بعد ذلك وأعطاه الملك بعد طالوت وجعله نبيا،"فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ". البقرة(251).أعطى الله من فضله داود الحكمة والكتاب، فشكر داود وكان عبدا صالحا، يقوم الليل متعبدا مصليا لله، يصوم يوما ويفطر يوما، فكأنه صام نصف الدهر، وهذا هو أعلى درجات صيام النافلة، وكان إذا قرأ الزبور بصوته العذب رددت الطبيعة معه التسبيح لله، فتسبح الجبال معه والطير ترجع تقديس الله، يصرف ما ملكه الله عليه لخير الناس، أيضا صير الله له الحديد لينا يشكله كما يشاء.ذات يوم بينما داوود في محرابه منقطعا للعبادة فإذا بخصوم يتسورون محرابه ويدخلون عليه، اضطرب منهم داود ابتداء، فقالوا له:لا تخف، نحن متخاصمان ظلم بعضنا بعضا فأحكم بيننا بالعدل ولا تتجاوزه. قال أحد الخصمين: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولى نعجة واحدة فقال اجعلنى كافلها كما أكفل ما تحت يدى وغلبني في المخاطبة وضمها إلى نعاجه. أفتى داود قبل أن يسمع أخيه، وعندما أدرك أن الأمر ليس كما بدا، شعر بأنه في امتحان من الله له ليعلمه ألا يتعجل في الحكم، فخر راكعا يتضرع إلى الله أن يغفر له، شأن الصالحين يسارعون إلى طلب المغفرة من رب العالمين، فغفر الله له تعجله في الحكم لأنه له القربى وحسن المرجع شأن الأنبياء والصديقين، "فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفي وحسن مئاب" (ص25). أوحى الله إلى داود: إنا صيرناك خليفة عنا في الأرض فاحكم بين الناس بما شرعت لك ولا تسر في الحكم وراء الهوى فيحيد بك عن سبيل الله، إن الذين يحيدون عن سبيل الله باتباع أهوائهم لهم عذاب شديد بغفلتهم عن يوم الجزاء. تعد قصة داود من القصص التي تحمل الدروس والعظات للبشر في كل مكان وزمان وخصوصا لمن يعتلي الحكم في مختلف الحضارات، فقد كان ملكا فأصلح ولم يتكبر وأعطى فأحسن، وأخطأ فأسرع بالتوبة، علمه الله أن القضاء بين الناس لا يكون بالهوى بل بشريعة الله ويما يرضى من العدل، وأنه أنفق شبابه وكبره في العبادة والحكم بما أنزل الله، فاستحق من الله الزلفي وحسن مقام.