لم يكن قرار الاعتزال مفاجئاً لكنه صدم الوسط الفنيالقاهرة - أمل زيادة:بريق الشهرة والأضواء رئة يتنفس بها الفنانون، لذا يضحون بالكثير، بل يقاتلون من أجل البقاء في هذه الدائرة، حيث المال وحب الجمهور وتهافت علية القوم عليهم، وعندما يقرر البعض، خصوصا الفنانات، الابتعاد والتضحية بكل هذا، سواء بسبب ارتداء الحجاب أو الاحتجاب طواعية أو رغما عنهن، فلابد أن تكون هناك قصة تستحق أن تروى، لذلك تفتح "السياسة" ملف "فنانات بين الحجاب والاحتجاب"، عن بعض من ضحين بالأضواء والشهرة لأسباب عدة، حتى إن عادت بعضهن.
* قبلة فوزي لها في أول أفلامها كشفت عن تربيتها الدينية * حافظت على أداء الصلوات في وقتها وكانت توقظ والدتها لصلاة الفجر جماعة* لولا وفاة حبيبها الضابط لتركت الفن في التاسعة عشرة من عمرها * أزماتها أسهمت في توجيه حياتها لترك الغناء والتفرغ للعبادة * قال لها الشعراوي "حان وقت تلبية الوعد" فنوت ارتداء الحجابلم تكن حياة الفنانة شادية تقليدية أو عادية، فقد مرت بمجموعة من المحطات، أهمها على الاطلاق المحطة التي قررت فيها ارتداء الحجاب والاحتجاب عن الوسط الفني والجماهيري، لم يكن قرارها هذا وليد الصدفة ولا نتيجة تعرضها لضغوط خارجية كما كان يُشاع بعد انتشار ظاهرة حجاب الفنانات في مصر آنذاك، ولا بسبب انحسار الشهرة والأضواء كما فعل كثيرون غيرها، ولكن كانت هناك شواهد عدة تؤكد أنها في طريقها للإقدام على القرار بقناعة تامة.. عن هذه الشواهد ورحلتها مع الفن والحياة وحتى رحيلها، نتحدث في هذه الحلقة. نشأت شادية منذ ميلادها في حي الحلمية الجديدة بمدينة القاهرة العام 1931، في بيئة محافظة وأسرة منغلقة ومتدينة، والدها أحمد كمال شاكر كان يعمل مهندساً زراعياً، دائم الترحال والتنقل من وإلى القاهرة، اعتاد الأهل والأقارب تدليلها ومنادتها باسم "فتوش" لأن اسمها الحقيقي "فاطمة"، لكن يظل أقرب الألقاب التي تُحب وتُفضل أن تُنادى به هو "الحاجة شادية".حياتها الفنية منذ بدايتها وطوال مشوارها أمام الكاميرا كانت زاخرة بالمواقف الإنسانية الراقية، التي جعلت الجميع يشهد لها بالالتزام والتدين، فقد كانت تواظب على أداء الصلوات في وقتها، توقظ أمها ليلاً لصلاة الفجر جماعة، تحرص على العبادات حرصاً شديداً وهذا يعزى إلى نشأتها الدينية، علاوة على حرصها الشديد على المشاركة في الأعمال الخيرية سرا وعلانية، وعندما كانت تواجه بالسؤال من بعض الصحافيين: "ألا تستائين من تسليط الضوء على مشاركتك الأعمال الخيرية علانية؟"، كانت ترد بهدوء "هناك أمور احتفظ بها بيني وبين الله وهناك أمور لا يمكن إخفاءها مثل "قطار الرحمة"، وهذا لا يعتبر تباهياً ولا مناً من الفنانين، حاشى لله وإنما حرص منا جميعا على المشاركة المجتمعية وتشجيع الشعب على التسابق لفعل الخير والحذو حذونا، "قطار الرحمة" وغيره من المشاركات الخيرية أجدها فرصة لتطهير الإنسان وروح الفنان". و"قطار الرحمة"، لمن لا يعرفه هو قطار خيري كان الهدف منه المرور على محطات المحافظات المصرية لجمع التبرعات من المواطنين، وتعود فكرته إلى اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر في أعقاب ثورة 1952، حيث دعى رموز الفن لاستقلال هذا القطار برعاية ضباط وقادة الجيش حاملا التبرعات العينية والمؤن الغذائية وأموال قدمها رجال الفن ورموز السياسة في محاولة للوقوف بجوار البلد ومعاونتها على تجاوز أزمتها عقب خسارة الجيش المصري في حرب فلسطين، التي كانت سبباً رئيسياً في قيام ثورة 1952، كان القطار بمجرد توقفه في المحطات، يلتف حوله جموع الشعب لالتقاط الصور التذكارية مع النخبة مقدمين للفنانين تبرعات نقدية وعينية، وكعادتها لم تتردد شادية يوما في الانضمام إلى ركب الخير والإقدام على أي عمل خيري، فكانت من أوائل الفنانات المنضمات إلى "قطار الرحمة". "العقل في إجازة" لم تأت شخصية شادية الملتزمة من فراغ، بل جاءت نتاج الأجواء التي تربت فيها، لعل أبرز هذه المواقف ما تعرضت له أثناء تمثيلها في فيلم "العقل في إجازة"، وهو أول فيلم تلعب فيه دور البطولة المطلقة مع الفنان محمد فوزي، أثناء تصوير هذا الفيلم اعترض والدها على أحد المشاهد التي جمعتها بالفنان محمد فوزي، لأن هذا المشهد كان يتضمن قبلة بين البطل والبطلة. ثار الوالد وانسحب من موقع التصوير وقرر عدم إكمال العمل لهذا السبب، مما دفع المنتج والمخرج حلمي رفلة للتفاوض مع الوالد الثائر، الذي لم يرضخ للمفاوضات، ولم يقتنع بحججهما وقرر منع ابنته من التمثيل نهائيا، مما دفع الفنان محمد فوزي لزيارته في منزله طالباً يد شادية للزواج، لكن والدها رفض هذا العرض رفضاً باتاً، لأن فوزي كان متزوجاً حينها، تركوا والدها بعض الوقت وتدخل كبار رجال الفن أصدقاء الطرفين، فكان تمكنوا من استئناف التصوير، لكن وفقا لشروط والدها المهندس أحمد كمال شاكر. لم تكن الشهرة والنجومية في عالم الفن هما الغاية الوحيدة للفنانة شادية، وهو ما سهل عليها قرار الاعتزال والبعد عنهما، ويؤكد ذلك هذه التجربة التي عاشتها عندما وقعت وهي في التاسعة عشرة من عمرها في حب ضابط جيش، وتمت خطبتها له واتفقا على اعتزال الفن والتفرغ للحياة الأسرية، وما كان لها أن توافق على ذلك لولا أن طبيعتها تميل للهدوء والعزلة والبعد عن الأضواء، لكن الرياح جاءتها بما لا تشتهي السفن، فكان للقدر كلمة أخرى، حيث استشهد خطيبها في حرب فلسطين العام 1948، لتدخل شادية في حالة حزن شديدة، لكنها استطاعت التماسك والوقوف على قدميها مرة أخرى وكرست وقتها للعمل الفني فقط، فشهدت هذه الفترة حالة من الرواج لأفلامها وتربعت على عرش الشاشة السينمائية لسنوات متتالية كواحدة من نجمات الصف الأول. ويعتقد البعض أن المحنة الأكبر التي عاشتها "دلوعة السينما المصرية"، كما كان يطلق عليها، تمثلت في عدم إنجابها للأطفال، فكانت تشغل حياتها بالعمل، وربما لو كانت انجبت لتفرغت لبيتها وأطفالها، لذلك حاولت أن تكون أما لكل من حولها تعويضا لفقدان الإحساس بالأمومة، الذي بسببه واجهت شهوراً وأياماً من أصعب ما تكون عقب محن عدم اكتمال الحمل على مدار زيجاتها، لكنها كعادتها استطاعت تجاوز هذه الأزمة، فاعتبرت نفسها أما للقريبات منها في الوسط الفني، بجانب أبناء عائلتها، خصوصا علاقتها بأبناء اختها "عفاف" التي كانت تقيم بالخارج، فقد كانت علاقة وطيدة وخاصة جداً، جعلت شادية دائمة الحرص وبانتظام على السفر إليهم، والبقاء معهم فترة طويلة.كبرياء الحبما مرت به شادية من أزمات وضربات للقدر على مدار حياتها الفنية والشخصية، لم يكسرها بل جعلها إنسانة قوية، خصوصا أنها مع كل أزمة تمر بها سرعان ما تتخذ قرارا حاسما حتى لو كان مؤلما لها، مثلما حدث في أزمتها العاطفية مع جارها الفنان والمطرب فريد الأطرش، حيث كانت تقطن في نفس العمارة التي يسكن بها، وربط الحب بينهما وكان الاتفاق على الزواج بعدما أعلنا عن ارتباطهما الرسمي للصحف، لكن الأطرش لم يقدم على خطوة إيجابية مما اتفقا عليه، ومنعها كبرياؤها من مواجهته بما تريد، فقررت الانتقال للإقامة في مكان آخر بعيدا عنه، لتسدل بقرارها الحاسم الستار على قصة حبهما ثم تتزوج من آخر.كل هذه الأزمات لم تكن عقبة في طريقها نحو الصفاء والسمو الروحي، بل ساعدت بشكل كبير في توجيه حياتها تجاه نيتها للاحتجاب، رغم أنها كانت تؤجل هذا القرار الكامن بداخلها، إلى أن جاء الوقت الذي رأته مناسبا، فنفذته وأعلنته ما شكل صدمة للمجتمع والفن بوجه عام، فقد جرت العادة أن يعتزل الفنان الأضواء لسبب قهري كإصابته بمرض عضال أو زوال بريقه وفقدانه العلاقات بحكم السن والزمن مع الأجيال الجديد التي أصبحت تهيمن على المجال. وهذا ما لم يحدث مع شادية، فقد ظلت تمثل وتغني، بل إنها خاضت تجربة المسرح للمرة الأولى وهي تقترب من الخمسين عاما في مغامرة يصعب على أي فنان لم يقف على خشبة المسرح كممثل أن يخوضها، لكنها استطاعت من خلالها أن تكتب سطورا من التميز كممثلة في تاريخ المسرح المصري والعربي بعد النجاح الكبير الذي حققته. "المرأة المجهولة"ولم يكن هذا هو التحدي الوحيد الذي خرجت منه شادية منتصرة، إذ سبق أن تحدت نفسها عندما قدمت دور الأم في عنفوان شبابها ولممثل يكبرها سنا هو الفنان شكري سرحان في فيلم "المرأة المجهولة"، حيث كانت الفنانات من أقرانها يهربن من تقديم أدوار الأمهات وغيرها من الأدوار التي يتخلين فيها عن جمالهن، لكنها خالفت هذه القاعدة وظهرت بملامح الطاعنة في السن وماكياج شوه ملامحها الجميلة، واستطاعت بهذا التحدي أن تؤكد موهبتها بعد أن حقق الفيلم نجاحا باهرا. كما تعد تجربتها مع أعمال الكاتب الكبير نجيب محفوظ من أهم التحديات التي واجهتها، فقد كان محفوظ معترضاً في البداية على اختيارها لتمثيل رائعته "اللص والكلاب" وغيرها من روائعه الأدبية، لدرجة أنه قال لها أثناء جلسات كتابة السيناريو "لا أراك بطلة للفيلم"، لم تتضايق بل اجتهدت في دورها وقدمته على أكمل وجه، بعد أن دخلت معه في تحد خفي بذكاء الفنان المحترف، مما جعله يجهر بالشهادة لها ويعدل عن رأيه فيها قائلاً "لم أكن أعلم أنك موهوبة لهذه الدرجة المدهشة"، ففي كل هذه التجارب كانت تريد أن تبعد عن الأدوار الخفيفة، التي اشتهرت بها وحاول المخرجون أن يجعلوها أسيرة لها، لتقدم أدوارا جادة مختلفة تماماً عن بدايتها الفنية.إنه ذكاء من نوع نادر تميزت به شادية، وظهر جليا عندما تخلت عن الغناء في العديد من أفلامها، حتى تكشف زيف من يدعي أن نجاحها كممثلة سببه غنائها كمطربة، فقدمت أدوارا متنوعة تحوى قيما إنسانية جعلها تبرز وتلمع وتتربع على عرش الدراما والسينما العربية، وقد يكون اختيارها دور الممثلة بعيدا عن المطربة، تمهيداً وبداية لرحلة الاحتجاب والبحث عن الذات والسلام النفسي، حيث رأي البعض أنه كان بمثابة الانسحاب التدريجي، الذي زادت مساحته مع الوقت، فبعد تقديمها الكثير من النماذج الإنسانية كممثلة، بدأت تفكر جدياً في الابتعاد تماماً عن الأضواء، خصوصا أنها لم تعد تشعر بالسعادة والراحة في عملها بالفن، بل صرحت بأنها لم تعد قادرة على حفظ السيناريو والأدوار التي تعرض عليها، الغريب في الأمر لمن لا يعرفها أنها صرحت أيضا بأن هذا الأمر لم يزعجها قدر ما جعلها تتوقف أمامه وتقارن بين حياتها في السابق، وحياتها بعد أن قررت الاحتجاب، وكيف أنها في السابق كانت تحفظ أدوارها بسرعة وكيف أصبحت بعد ذلك لا تستطيع الحفظ، في وقت كانت كلما اقتربت من المصحف وقرأت فيه كانت تحفظ آياته بسرعة ومهارة وبصورة أصابتها بالدهشة والتعجب، فأدركت أنها تسير على الخطى السليمة وان الله يمد لها يده ويعينها على اتخاذ القرار الصائب، بعدها قررت وأعلنت أنه آن الأوان أن تتخذ مقعد المتفرج وتترك الساحة الفنية وتهجر الشهرة والأضواء.قناعة تامةورغم أن قرارها بالاحتجاب شكل صدمة لمحبيها، لكنه لم يكن مفاجأة لأن الجميع كانوا على يقين بأنها اتخذته عن قناعة تامة ودون الرضوخ لضغوط من بعض دعاة الدين، الذين كان يشاع أنهم يساومون الفنانات على الاعتزال مع وعد بتوفير مصدر رزق دائم لهن بعيدا عن الفن، في محاولة للأخذ بأيديهن لطريق الجنة، فهي لم تكن يوما من هذا النوع وكل من تعامل معها يدرك حقيقة ذلك الأمر جيدا، بل كانت شخصية صعبة الارضاء، قراراتها مصدرها عقلها، تتخذها بعد فترات من المراجعة وحساب النفس بعيدا عن الجميع، في جوف الليل بين أيدي الله على سجادة الصلاة، أثناء صلاة الفجر جماعة برفقة والدتها.عندما طارت شادية إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، جددت هناك الوعد وطهرت الروح وقابلت الشيخ الجليل محمد متولي الشعرواي، فعرفته على نفسها، فبات ممتناً منها داعياً لها بالثبات على الاحتجاب، قضت وقت العمرة في الصلاة والدعاء وقراءة القرآن، الذي حرصت على ختمه، لتعود إلى مصر إنسانة جديدة عازمة على هجر الأضواء وزاهدة في الشهرة والصحف والأحاديث الإذاعية واللقاءات التلفزيونية، بعد عودتها إلى مصر بأسابيع قليلة جاءها عرض لإحياء حفل "الليلة المحمدية"، ترددت في قبول العرض، لكنها سرعان ما تأكدت أنها على الطريق الصحيح، عندما وجدت نفسها تستطيع حفظ كلمات الأغنية التي ستؤديها في الحفل الديني، شعرت أنها رسالة من الله للأخذ بيدها ومعاونتها على مقاومة وإغواء الأضواء والشهرة والمجد، وبعد أن أنشدت وغنت "خذ بإيدي " في هذا الحفل شعرت وكأنها تناجي الله والرسول الكريم من خلال كلمات الأغنية، وأنها وجدت الضوء الأخضر يبزغ أمامها فجأة فشرح قلبها وتعمقت بصيرتها، فهرولت إلى خلوتها تصلي وتناجي الله في جوف الليل كالمعتاد وفي اليوم التالي صارحت شقيقها قائلة "لا أشعر براحة، لست أدري ماذا أريد، لا شيء يسعدني، هناك شيء ينقصني، ربما إذا قابلت شيخاً وتحدثت معه أجد علتي"، رد عليها أخوها متعجبا "هل تريدين الاعتزال والاحتجاب؟"، لمعت كلماته أمام عينها كالبريق فقالت له على الفور: "حدد لي موعدا مع الشيخ محمد متولى الشعراوي"، نفذ أخوها رغبتها ودبر لها لقاءً مع الشيخ الجليل الذي قابلها بالترحاب قائلا: "مرحبا بالسيدة الفاضلة"، أخبرته بما تشعر به من عدم راحة وعدم قدرة على الحفظ ليجيبها الشعراوي بهدوء قائلاً: "آن الأوان، حان وقت تلبية الوعد"، تعجبت وقالت "أي وعد؟"، قال لها "أنت دعوت الله أثناء العمرة وقطعت وعداً على نفسك، آن الأوان أن تفي بوعدك"، شعرت براحة كبيرة وخرجت من عنده وهي عازمة على الاحتجاب، وقررت التوقف تماماً عن أي عمل فني، حتى ولو كان دينيا واختارت الحياة في الظل برغبة وقناعة تامة.. أعلنت اعتزال الفن والأضواء وارتدت الحجاب.ظلت سنوات تطاردها الشائعات فكانت لا تكترث لها، بقيت ثابتة على العهد، الذي قطعته على نفسها أمام الكعبة وفي بيت الله الحرام، لم تضعف أمام وابل الاغراءات من التكريمات اللا نهائي في محاولة لإثنائها عن قرار الاحتجاب، لكنها كانت حازمة، ترسل من ينوب عنها لتسلم الجائزة أو الدرع أو شهادة التكريم، لم تجر حواراً صحافيا واحداً منذ احتجبت تماما واعتزلت وارتدت الحجاب في العام 1984، حتى ووريت الثرى في 28 نوفمبر 2017 عن عمر يناهز 86 عاما إثر سكتة دماغية أودت بحياتها لتلقى الخالق الذي طالما اشتاقت للقاه، لتظل أسطورة سينمائية لن يجود الزمان بها، ورمزاً خالداً في الالتزام والنجاح، أسطورة في العطاء الفني والإنساني، إنها ببساطة "شادية الوادي"، شادية كل زمان.

شادية وسهير البابلي في مسرحية 'ريا وسكينة'