الافتتاحية
لسان حال الحمير عن البشر: هي ذي الدنيا فكن من شرهم على حذر
السبت 27 نوفمبر 2021
30
السياسة
قرأت قبل أيام حواراً متخيَّلاً بين حمار وابنه الجحش، وهو حوار يتناقله الناس منذ القدم. تبدأ القصة بامتناع الحمار الصغير عن الأكل يوماً، أي الإضراب عن الطعام احتجاجاً على نعت البشر كل من يسيء التصرف بأنه حمار، فهزل جسمه وتهدّلت أذناه وكاد يقع أرضاً من الوهن. ولما أدرك الأب أن صحة جحشه تتدهور، أراد معرفة السبب، فسأله: "ما لك يا بني، لقد أحضرت إليك أفضل أنواع الشعير، ولا تزال ترفض الأكل، لماذا تفعل ذلك بنفسك"؟رفع الجحش رأسه وقال: "البشر سبب علتي".دُهش الأب وسأله: "لماذا البشر"؟أجاب:"إنهم يسخرون منّا نحن معشر الحمير".قال:" كيف ذلك"؟الابن:"ألا تراهم كلما أقدم أحدهم على فعل مشين أو ارتكب رذيلة يقولون له يا حمار، ويصفون أغبياءهم بالحمير، فيما نحن لسنا كذلك يا أبي، نحن نعمل دون كلل أو ملل، ونفهم وندرك، ولدينا مشاعر".عندها ارتبك الحمار الأب ولم يعرف كيف يردّ على تساؤلات صغيره، لكن سُرعان ما حرّك أذنيه يُمنة ويسرة، وقال:"انظر يا بني إنهم معشر البشر خلقهم الله وفضَّلهم على سائر المخلوقات، لكنّهم أساؤوا لأنفسهم كثيراً قبل أن يتوجهوا إلينا بالإساءة".أضاف:" هل رأيت حماراً يسرق مال أخيه، أو يعذب بقية الحمير لا لشيء إلا لأنهم أضعف منه أو أنه لم يعجبه ما يقوله الآخر، بل هل رأيت حماراً عنصرياً يعامل أبناء جنسه على أساس اللون والجنس واللغة، ويفرق بين أهله على أساس طائفي"؟ ثم أردف بحسرة سائلاً ابنه: "هل سمعت يوماً أن الحمير الأميركان يخططون لقتل الحمير العرب للحصول على شعيرهم، أو رأيت حماراً عميلاً لدولة أجنبية أو يتآمر ضد بلده"؟أضاف:" طبعاً لم تسمع بمثل هذه الجرائم البشرية في عالم الحمير، وهل يعرف البشر الحكمة من خلقهم ويعملون بمقتضاها جيداً، لهذا يا ولدي أطلب منك أن تحكِّم عقلك، وترفع رأسي ورأس أمك عالياً، وتبقى كعهدي بك حماراً بن حمار، واترك البشر يقولون ما يشاؤون ويتفاخرون بامتطاء صهوات الخيل وصهيلها، فنحن يكفينا فخراً أننا حمير لا نكذب، ولا نقتل أونسرق، ولا نتجسس، أونــشتـم، ولا نرقص فرحاً وبيننا جريح وقتيل".أعجبت هذه الكلمات الجحش، وراح يلتهم الشعير وهو ينهق: "نعم سأبقى كما عهدتني يا أبي، افتخر أنني حمار بن حمار".***لم نعهد في الحيوانات يوماً أن ابنا قتل أمه، أو أباه، أو زرع المخدرات أو صنَّعها وباعها لناسه، أو هرَّبها إلى دول أخرى كي يقتل شبابها، ولا سمعنا عن حمار اختلس المال العام، واغتنى من الحرام، ولا اخترع أي من تلك الحيوانات أسلحة دمار شامل لقتل أبناء جنسه، ولا أقيمت في الغابة مختبرات ومراكز دراسات لهذا الغرض، ولا منحت الجوائز والرتب العالية لمن ارتكب المجازر.يتغنى البشر بالسعي إلى ترسيخ الإنسانية، ولهذا تفاخر كثير منهم بحماية الحيوان والدفاع عنه، فيما يغضون الطرف عن كل الموبقات التي يرتكبونها، لذا أصاب الشاعر السوري أديب اسحاق في القرن التاسع عشر عندما كتب قصيدته الشهيرة:" قَـتـل امـرئٍ فـي غابةٍ جــريـمـةٌ لا تُـغـتَـفـر وقَتل شعبٍ آمنٍمسأَلةٌ فيها نظروالحقُّ للقوَّةِ لايعطاهُ إلاَّ مَن ظفرذي حالة الدنيا فكن من شرّها عَلَى حذر".لذا فإن السؤال الذي يخطر في بال كل من يقرأ الحوار أعلاه بين الحمار وابنه الجحش: من هم الحمير الذين لا يفقهون الحكمة من وجودهم، واساؤوا إلى جنسهم كثيرا: البشر أم ذاك الحيوان الودود المسالم؟أحمد الجارالله