كل الآراء
"مجالسنا مدارسنا"... تراث ينبغي المحافظة عليه "1ـ 2"
السبت 22 مايو 2021
5
السياسة
عبدالنبي الشعلةكلما سمعت الحكمة المعروفة التي تقول "مجالسنا مدارسنا" تعود بي الذاكرة إلى الوراء؛ إلى مجلس المرحوم منصور العريض الذي كنت أواظب على حضوره لثلاث سنوات متواصلة حتى بلوغي سن العشرين، والذي لا تزال مشاهده عالقة في ذهني رغم تراكم وتعاقب السنين.وعندما قرأت الكتاب الذي صدر في نهاية العام الماضي بعنوان "منصور العريض... تاريخ وطن" نهضت ذاكرتي لتعيد شريط الذكريات لتجربة "مدارس المجالس"؛ التي أتمنى من أجيال اليوم والغد أن يبادروا إلى إحيائها والمحافظة عليها على الرغم من توفر الوسائل والأجهزة الالكترونية الحديثة التي تتيح لهم وتضع بين أيديهم كل ما يحتاجون إليه من مصادر المعلومات والمعارف.ففي العام 1965 وبعد أن أنهيت دراستي الثانوية، وقبل انخراطي بالدراسة الجامعية، التحقت بالعمل كموظف في إحدى مؤسسات القطاع الخاص الصغيرة التي كانت تعمل في مجال تزويد مواد البناء؛ بما في ذلك الرمال والأتربة المستخدمة للردم والدفن.وفي الأسبوع الأول من التحاقي بالشركة اصطحبني صاحبها لزيارة رجل الأعمال وتاجر اللؤلؤ المشهور منصور العريض في مجلسه، ببيته الواقع في "فريج الحطب" أو "فريج كانو" بالمنامة، وكان المجلس عبارة عن قاعة جلوس كبيرة، عالية السقف، يستقبل فيها ضيوفه ويستخدمها كمكتب له في الوقت نفسه، وكان الهدف من الزيارة التوقيع على اتفاق معه، من ورقة واحدة، لدفن قطعة أرض بحرية صغيرة يملكها في منطقة الحورة من المنامة.ومثل بيوت الكثير من التجار وعِلية القوم في ذلك الوقت، فقد كان الباب الكبير للبيت الكبير لمنصور العريض مفتوحا دائمًا، من ساعات الصباح الأولى إلى منتصف الليل، وكان يؤدي إلى ردهة صغيرة عند المدخل، ثم أخرى أكبر منها يطل عليها المجلس أو قاعة الجلوس، وما أزال رغم مرور السنين أشم وأتحسس عبق الأصالة والبساطة والوقار والثراء التي كانت تفوح من بين الجدران السميكة لذلك البيت؛ الذي لم تطله وقتها يد الصيانة أو التجديد لفترة طويلة.كنت قد سمعت من قبل عن صاحب الدار ومكانته ومقامه وحكمته وحنكته، وكنت اتطلع إلى لقائه، ولم أستطع أن أصدق أن صاحب هذا المقام الرفيع هو إنسان عصامي كفيف البصر، فقد كانت القناعة وقتها، وربما لا تزال عند بعض الناس، أن فقدان البصر يشكل إعاقة مقعدة تمنع الانسان من أداء عمله، ناهيك عن تحقيق طموحاته وتطلعاته.وبالفعل عندما دخلت المجلس وجدت صاحب الدار رجلًا كفيف البصر، طويل القامة، ممتلئ الجسم، أصلع، حاسر الرأس، يلبس لباسا غاية في البساطة لا يتعدى إزارًا وقميصًا أبيضين، وينتعل نعالًا عاديًا، ومع ذلك فقد كانت له مهابة وثقل ورزانة، وحضور كاسح محسوس لا يجعلك تشعر بالشفقة والعطف عليه لفقده نعمة البصر، ولكن بالإكبار وبالتقدير لشكيمة رجل يتحدى الظلام، وإنسان يتجاوز حدود الثروة المادية إلى الثراء النفسي؛ فتصبح البساطة والتواضع عنوانين للغنى والرفعة ومنابع الهيبة والوقار.بعد ذلك اليوم تكررت وانتظمت زياراتي المسائية لذلك المجلس أو تلك المدرسة، وازداد مع الوقت تقديري واحترامي واعجابي بتلك الشخصية المميزة، وتعلمت في مجلسه معاني الثقة والأمل والتحدي، وعرفت فيه الفرق بين البصر والبصيرة، وبين النظر والرؤية وبُعد النظر، ورأيت كلمة "التناقض" تتخلى عن معانيها ومضامينها عندما يفقد الانسان النظر ويحتفظ بالرؤية، وعندما يفقد البصر ويظل محتفظًا بالبصيرة، وفي كل مرة أغادر فيها ذلك المجلس كان يغمر وجداني قول الله سبحانه وتعالى (فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)، وقد رأيت لاحقًا وبأم عيني ذلك الرجل الضرير يستعان بخبراته في التعرف على أصالة وجودة اللؤلؤ الطبيعي عن طريق تحسسها ولمسها بأصابعه وتذوقها بلسانه في مشهد يدعو إلى الدهشة والاستغراب والإعجاب.وزير العمل البحريني السابق