

مشعل الأحمد… روح الستينات
ليس من السهل أن تبنى حضارة أمة في محيط من الأطماع، وبحور من المشكلات الحدودية، وأمواج من التهديدات، إلا في حالات استثنائية، كحالة الكويت، أو الحصن الذي قامت داخله مدينتها العريقه عام 1613ميلادية.
في ارض صعبة قاحلة، الا انها تمكنت ومنذ تأسيسها الممتد عبر تاريخ طويل من الصراعات والحروب ان تثبت وجودها وكيانها واستقلالها، ودورها التجاري بين موانئها وموانئ الهند، ومركزا لتجارة اللؤلؤ، ومن ثم مركزا للاشعاع والنهضة والديمقراطية بعد الاكتشافات النفطية عام 1946.
رحم الله سمو الشيخ نواف الاحمد الجابر الصباح الحاكم السادس عشر للكويت، القامة الشامخة التي لها في كل القلوب والنفوس بين اهل الكويت مكانة عالية، فقد كان رمزاً وعنواناً للقائد الانسان، ونقاء القلب المليء بالايمان والتواضع وحب الناس.
ورحم الله قيادات وقامات مشهودة لحكام آل صباح، ورجالات الكويت وشعبها في بناء الدولة، وحضارتها، ومكانتها الدولية ودورها المهم في "مجلس التعاون" والاقليم.
لقد كانت دولة الكويت من الدول الخليجية التي استقلت مبكراً في مطلع ستينات القرن الماضي، واستطاعت في فترة قصيرة بناء نهضة شاملة في كل القطاعات، وبخاصة اتخاذ الديمقراطية نهجاً للحكم، واعطاء الشعب حق المشاركة في ادارة الدولة، وفتحت ابوابها وقلبها لشعوب الأمة العربية من كل الجنسيات، لمشاركتها البناء، ايماناً راسخاً من قيادتها وشعبها بالعروبة، وقبول الآخر كما نصت عليه المادة الأولى من الدستور على "أن الكويت دولة عربية مستقلة ذات سيادة تامة وشعب الكويت جزء من الأمة العربية."
اما السياسة الخارجية، مع بدء الاستقلال، فقد قامت على أسس عدة أهمها التضامن العربي، وأن الوحدة هي المصير الحتمي للأمة العربية.
كما ارتكزت سياستها على مساعدة الدول العربية بكل ما تملكه من طاقات، سياسية ومادية، بما في ذلك تقديم المنح والقروض للدول التي هي في حاجة إليها، إلى جانب التوفيق والوساطة في العديد من الخلافات العربية والاقليمية، اذ كانت على قناعة أن ما يربط الدول العربية من وشائج وصلات وثيقة أمتن، وأبقى من أي خلافات عربية طارئة، ومن ثم كان للديبلوماسبة الكويتية "التوفيقية " دور ايجابي في انهاء العديد من الخلافات، تأكيداً لانتمائها الخليجيى والعربي.
ومن هذا المنطلق لا أنسى، ومع بدء استقلال البحرين في سبعينات القرن الماضي، أي بعد أحد عشر عاماً من استقلال الكويت، الدور الذي ادته الكويت في تقديم مساعداتها للديبلوماسية البحرينية الجديدة في عالم السياسة، والامم المتحدة، لذلك عملت على اعداد الكوادر الديبلوماسية البحرينية في بعثاتها في الخارج، لاسيما الامم المتحدة، وعدد من سفاراتها في عواصم العالم، كما تم تدريبهم في المعهد الديبلوماسي بالصليبخات.
والاهم من كل ذلك وقوفها مع البحرين ضد الادعاءات الايرانية الباطلة، من خلال اتصالاتها الديبلوماسية بحكومة الشاهنشاه، والاجتماعات المتعددة نظمتها بالتنسيق مع السعودية لانهاء هذه الادعاءات الباطلة.
هذه هي الكويت التي عاشت افضل ايامها بعد استقلالها في مطلع ستينات القرن الماضي، واستطاعت ان توازن في بناء علاقاتها العربية والاقليمية والدولية، بما يتفق ومصالحها، لذلك يعد السادس عشر من ديسمبر يوم اعلان مجلس الوزراء، سمو الشيخ مشعل الاحمد الامير الجديد، امير الكويت السابع عشر، يوما مشهودا، ومرحلة جديدة ومضيئة في تاريخ الكويت الذي تشرق منه حضارتها، ونهضتها، وعلاقاتها مع الدول بعد ان حباها الله بقيادات حكيمة مخلصة منذ فجر الاستقلال، تمكنوا بفضل عزيمتهم الصلبة، ونظرتهم الثاقبة مواجهة كل التحديات التي مرت على الكويت عبر تاريخها، وبنوا في فترة وجيزة علاقات راسخة مهمة مع شعوب العالم، وذلك بعد ان عمل حكامها وسخروا كل الامكانات من اجل وطن حر، يعزز مكانتها، وتمسكها بالنظام الدولي المتعدد الأطراف، وبمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة، وبما يكفل تحقيق رسالتها السامية في حفظ امنها واستقرارها في اطار دعم السلم والأمن الدوليين.
لذلك فإن تولي سمو الشيخ مشعل الاحمد الصباح الحكم يذكرنا بستينات القرن الماضي، وكيف بدأت المسيرة الوطنية التي ملكت "روحا" قوية وعزماً شديداً، وهذا ما تتطلبه المرحلة الحالية من "روح" تلك الفترة وعزيمة رجالها، والعمل الجاد على استكمال النهضة الكويتية الشاملة ودفعها الى الامام بقوة، لأن قطار الزمن لا ينتظر المتأخرين في المحطة، وسوف يمر حاملاً معه الامة الناجحة، اما المتأخرون سوف يظلون يبحثون عن المجد في دفاتر التاريخ، وحكايات امجاد الماضي.
وقد عكس الأمير مشعل تلك الروح والعزم نحو آفاق جديدة في خطابه امام مجلس الامة للبدء باستعادة الكويت لموقعها ومكانتها الصحيحة، ووضع مصالح المواطن الكويتي فوق كل الاعتبارات اذ قال:" أكدنا في خطاباتنا السابقة ان هناك استحقاقات وطنية ينبغي القيام بها من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية لصالح الوطن والمواطنين".
وذلك يؤكد تمسّك القيادة السياسية بالدستور، واحترام الحريات العامة التي من شأنها أن تساهم في الإصلاحات التي تعزز مبادئ الحرية المسؤولة وكرامة المواطن. وسوف يساعد ذلك على فتح صفحة جديدة لرؤية سياسية تساعد على بناء جسور الثقة بين الحكومة ومجلس الأمة.
وكل ما نراه اليوم من تطورات تذكرنا بالرجال الذين اسسوا وبنوا دولة الكويت الحديثة، ووقفوا بعزم وقوة امام كل التحديات، بدءا من الشيخ عبدالله السالم، ابو الدستور والاستقلال بعد انهائه لمعاهدة الصداقة مع بريطانيا، وحصول الكويت على استقلالها في فبراير 1961 وانتهاءً بالعهد الجديد الذي بدأ بشكل واضح في وضع أسس العلاقة بين الحكومة ومجلس الامة، لتتمكن من استمرار رسالتها في تجاوز كل اشكال التحديات الداخلية، والتهديدات الخارجية، ومشكلاتها الحدودية مع جيرانها.
اذاً نحن - وبعد الخطاب الاميري - امام الكويت الجديدة التي تستعيد مجدداً "روح" الستينات لاستكمال النهضة الوطنية الشاملة، نجد ان صاحب السمو كان صادقًا ووفيًا في أولى كلماته السامية إلى ممثلي الشعب الكويتي في مجلس الامة، وجديرًا بحمل الأمانة وتولي المسؤولية والعمل من أجل جعل الكويت دولة عصرية حديثة، يسودها التعاون، والإخاء، والمحبة بين اهلها، ويتمتعون جميعهم بالمساواة في الحقوق والواجبات والمحافظة على الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، ولا فرق بين رجال ونساء فهم جميعًا سواسية أمام القانون وعلى كاهلهم تقع مسؤولية خدمة الوطن والنهوض به في إطار التمسك بالقيم والثوابت والمبادئ الكويتية الاصيلة.
وكيل وزارة الخارجية البحرينية للشؤون الإقليمية و"مجلس التعاون" السابق، سفير سابق
حمد العامر