إعداد - محمود خليل: يقول الفقيه المحدث أبوالعباس القرطبي الأندلسي في كتابه "شارح مختصر صحيح البخاري ومسلم"، عن أسباب سقوط الأندلس في يد الصليبيين" إنما كان ذلك لشيوع الفواحش منهم بالإجماع؛ من شبانهم بالفعل وشيوخهم بالإقرار، فسلط الله عليهم عدوهم إلى أن أزالهم بالكلية".هذا ما حدث في الأندلس بالفعل حينما بدأ المسلمون دخولها، كانت بداية دخول المسلمين إليها هي الأسباب نفسها التي أدت إلى خروجهم منها، ليصدق قول الله تعالى في الخلق من الدول والإنسان "كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"(صدق الله العظيم).إن الانحلال والتفكك السياسي في الأندلس، بعد الخلافة الأموية بقرطبة، أنشأت ممالك طوائف متعددة، يستقل فيها الحكام بما كانوا يحكمون، تتنافس بينها، فأتاحت الفرصة للصليبيين للإغارة على تلك الممالك واحدة تلو أخرى حتى تم طرد المسلمين من بلادهم.هذه الدراسة ليست تأريخا لوجود المسلمين في الأندلس، أي أنها ليست دراسة سياسية تهتم بكيفية الفتح، انتصارات المسلمين، سيرة وسياسة الحكام والملوك، لكنها إطلالة على المخفي أو ما لا يعلمه كثيرون عن حياة المجتمع الإسلامي في الأندلس، إنها دراسة عن الإنسان الأندلسي المسلم.من بين المقتنيات الأثرية للمسلمين في الأندلس، التي استولى عليها الصليبيون ويحتفظون ببعضها في متاحفهم، مشط أندلسي رائع، صنع بين عامي 1400 و1450م، أي قبل سقوط الأندلس بسنوات قليلة، طوله 24 سنتيمترا، صُنع من الخشب، طُعّم بالصدف والفضة، زُخرف بالفسيفساء، التي كانت مشهورة في عهد بني نصر، آخر ملوك الأندلس، يحتفظ به متحف فيكتوريا البريطاني.يدل المشط على اعتناء نساء الأندلس في ذلك العهد بجمالهن وشعرهن، فقد تميزت نساء غرناطة بالجمال، والأناقة، التفنن في الزينة والتطيب، يصفهن "لسان الدين ابن الخطيب"، صاحب "الإحاطة في نساء غرناطة" بقوله: "حريمهم حريم جميل، موصوف بالسحر وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب النشر، وخفة الحركات ونبل الكلام، وحسن المحاورة، إلا أن الطول يندر فيهن، وقد بلغن في التفنن في الزينة لهذا العهد والمظاهرة بين المصنفات والتنفيس بالذهبيات والديباجيات والتماجن في أشكال الحلي".لا تقتصر الفنون الأندلسية على صناعة المعادن، بل حظيت قُرطبة بشهرة كبيرة في فن الحفر على الخشب وذاعت شهرتها، بالذات في صناعة المنابر، يصف المؤرخون منبر جامع قرطبة، مقصورته الخشبية، كرسي المصحف العثماني، بما يلي: تمت صناعة منبر مسجد قرطبة في سنة 365 هـ، وكان خشبه من العاج والأبنوس وعود القاقلي، وكان عدد درجاته تسعًا، وعدد حشواته 36 ألف حشوة أو وصلة مسمرات بمسامير الذهب والفضّة، ورصّع بعضها بنفيس الأحجار، وكان اتساعه يصل إلى أربعة أشبار ونصف، حوالي 94 سم، وكانت ذراعاه الممتدان على جانبيه من أعلى الأدراج إلى اسفلها من الأبنوس، طول كل ذراع منها ثمانية عشر شبرًا، 3.78 متر.يصف "امبروسيو دي موراليس"، المنبر في سنة 1600، بقوله: كان قائمًا في مصلى سان بدرو الواقع أمام المحراب، وهو عربة ذات أربع عجلات من الخشب منقوشة نقشًا بديعًا، ويصعد اليها بسبع درجات، وقد فكت هذه العربة بعد مضي سنوات قليلة، ولا اعرف لأي غرض، وبذلك ضاع هذا الأثر. كذلك وصفه الأب "مرتين دي روا"، اعتمادًا على نص موراليس فقال: "وكان عربة من الخشب ذات أربع عجلات منقوشة نقشًا رائعًا، وكان يصعد اليه بسبع درجات، ولكن لم يبق منه سوى الصندوق العاري، اذ ضاع باقيه بسبب الإهمال".يتضح من هذا الوصف أن المنبر المذكور كان يتحرك على عجل، كان يوضع بعد صلوات الجمعة في غرفة تقع خلف المحراب.
توصل المهندس "فيلث هرناندث" إلى الموضع الذي كان يُحفظ فيه، كان عبارة عن فتحة في جدار المحراب، اكتشفها في يناير سنة 1934، أثناء ترميمه العناصر الزخرفية بواجهة جدار القبلة في القطاع الغربي المؤدي إلى المحراب. تقع هذه الفتحة في جدار القبلة لصق الجزء الغربي من الدعامة التي ترتكز عليها البائكة الوسطى، الواقعة بين البلاط الأوسط والبلاط التالى له من جهة الغرب، أي فيما يلي المحراب مباشرة على يمينه، أو في المنطقة الممتدة فيما بين المحراب وباب المشرع.كان يدخل في بيت المنبر عن طريق هذه الفتحة، كان للفتحة مصراعان من الخشب وظيفتهما غلق بيت المنبر، تربطهما بالجدار مفصلات من الحديد، مثبتة بمسامير رؤوسها مضلعة، تبقّت منها آثار في العتب. ظلت قرطبة، زمن الخلافة، تحتفظ بشهرتها في صناعة المنابر، يعتقد أن ظهر المنبر الذي أمر المنصور بن أبي عامر بصنعه في جامع الأندلسيين بفاس سنة 375 هـ، والمنبر الذي أمر المظفر عبد الملك بصنعه في جامع القرويين بفاس من خشب القنب والأبنوس عام 395 هـ، تمت صناعتهما في قرطبة.يذكر صاحب "الحلل الموشية"، أن عبد المؤمن بن علي، نقل إلى جامع الكتبية منبرًا عظيمًا كان قد صنعه بالأندلس في غاية الإتقان صنع من العود وصندل أحمر وأصفر، صفائحه من الذهب والفضّة، أقام للمسجد مقصورة من الخشب، صنع المنبر والمقصورة الحاج يعيش المالقي، ما يدل على أن هذا المنبر صنع بقرطبة من نقش كتابي كتب فيه "صنع بمدينة قرطبة حرسها الله".كان الصناع يتبارون في صنع المنبر من أفضل أنواع الأخشاب وأندرها، إذ يروى عن منبر مسجد قرطبة: "صنع المنبر من أغرب ما قدر عليه الفعلة من غرابة الصنعة، واتخذ من أكرم الخشب مفصلًا منقوشًا محكمًا بأنواع الصنعة والحكمة في ذلك من غريب العمل وعجيب الشكل، مرصعًا بالصندل، مجزعًا بالعاج والأبنوس، يتلألأ كالجمر بالإشعال وبصفائح من الذهب والفضة، وأشكال في عمله من الذهب الإبريز". كما تميز الأندلسيون بإنشاء القصور، منها قصر "الحمراء"، ففي كل غرفة من غرف القصر توجد قوقعة مائية يستند معظمها على أفاريز رخامية مزخرفة، تعتبر قاعة الأختين وقاعة بني سراج، من أكبر وأشهر قاعات القصر، الذي تتزين جدرانه، أبوابه، غرفه، سقوفه، التي صنع بعضها من خشب الأرز المحمول من لبنان، بأرقى، أدق، أتقن، ما توصلت إليه عبقريات الفن الإسلامي حينئذ، من ناحية فنون الخط، الرقش "الزخرفة"، الحفر، التوريق، التعشيق... الخ.يعتبر القصر مرآة للفن الإسلامي في أبهي مظاهره وتجلياته، فالفنان المسلم يتبع نظاما رياضيا دقيقا، يوائم بين الألوان والفراغات وذبذبتها على الأحجار المنحوتة، كذلك حين يضيف المزيج الملون "الخزف المغربي".يقوم هذا التنوع الهارموني والدقيق، على ركنين أساسيين في لغة الفن التشكيلي، "الخيط والرمي"، أى التخطيط القائم على القواعد الهندسية من خطوط مستقيمة وزوايا حادة، والتخطيط القائم على الخطوط المقوسة أو المنحنية، مشكلا الإبداع الفني المضبوط.إن الفن الإسلامي يتميز بإلغاء البعد الثالث في المنظور، يكتفي ببعدي الطول والعرض، كما يتميز بغياب المعنى الذاتي أو العاطفي، لذلك غابت أسماء مهندسي وصناع هذه الثروات الفنية، فقد ألغى الفنان المسلم نفسه في مشروعه ليظهره على حساب شخصه الإبداعي.يفسر ذلك ما كتب على كل جدران قصر الحمراء من عبارات مزخرفة تقول، "ولا غالب إلا الله"، "الحمد لله على نعمة الإسلام"، كأن المهندس والفنان المسلم يريد التأكيد على إنه ينفذ أوامر الله، يحقق واجبا دينيا عليه، مشغولا دائما بالحق وتثبيته، شرعا وفلسفة، فنا وجمالا.إن المساجد والقصور الأندلسية كلها، تدعو إلى التأمل، تحقيق النداء الموجه إلى الخلود الإلهي، إنها فن وشهادة وبرهان على كمال الرسالة المحمدية.