منوعات
وصايا فتح مكة: التسامح والغفران... وامتلاك القلوب
الأحد 02 يونيو 2019
50
السياسة
إعداد: ميرفت عزت:كان يوم فتح مكة يوما مشهودا، وفيه من الدروس والعبر والوصايا الكثير، من ذلك: احتواء الموقف، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل بتكسير الأصنام، وتأليف القلوب، والصفح والعفو عن ألد الأعداء وإدخالهم في حظيرة الإسلام بالأخلاق الرفيعة العالية، وغير ذلك من المواقف العظيمة التي فعلها صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة.يذكر د.جعفر عبد السلام في كتاب"أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية" أن فتح مكة تم بحرب عسكرية وحرب سياسية وحرب معنوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقن كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، الحرب عسكرية أعد إعدادا قويا جدا للجيش، ووضع خطة محكمة فقد أخفى سيره إلى مكة قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دون أن تعلم قريش بوصوله إلا على بعد عدة كيلو مترات فقط من مكة المكرمة، وقام بحرب سياسية بارعة، عندما استخدم أبا سفيان لصالح المسلمين في منع القرشيين من المقاومة عند دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة، ثم مارس الحرب المعنوية بكل تفصيلاتها ابتداء من إظهارالعدد الضخم للجيش الإسلامي وإشعال النيران، فقد جعل أبا سفيان يرى الجيوش الإسلامية الكثيرة والقبائل المتعددة، كذلككسر الأصنام وأذان بلال، كل ذلك تحطيم لمعنويات القرشيين وإخماد كل مقاومة عندهم.فهذا إعداد باهر ومتقن وحكيم، ويبرز لنا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين القيادة وبين النبوة، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام برغم هذا الإعداد القوي لم يكتف به ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قلما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بشكل عام.. وسيلة امتلاك القلوب، فالشعب الذي فتح بلده الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في داخله غيظ كبير جداً من المحتل له، سواء كان هذا المحتل من الشرفاء أو من غير ذلك، وكانت هناك حرب طويلة بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول يعلم ما في داخلهم؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، فماذا فعل؟نحن رأينا قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام ألف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وهو زعيم أكبر القبائل القرشية في داخل مكة المكرمة.وهذا موقف ثان رائع منه صلى الله عليه وسلم في تأليف قبيلة ثانية كبيرة، وهذا الموقف عندما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة وصلى فيها، ثم خرج ودعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وهو من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية أيضاً، فهي حاملة مفتاح الكعبة أباً عن جد لعشرات السنين. وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، فظن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيأخذ منهم مفتاح الكعبة؛ ليعطيه لأحد أقاربه ليعطيه شخصاً من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طلب ذلك صراحة، فيكون ذلك شرف الدهر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الكلام في منتهى العظمة والحكمة، وحتى تعرف مدى العظمة والحكمة راجع موقفاً من المواقف التي مرت قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل أن يهاجر، ويومها كان عثمان بن طلحة هذا من الكفار، وكان قد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوار وطلب منه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، لكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت رفض، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "يا عثمانلعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ"، ومرت الأيام وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة المكرمة وطلب المفتاح، وعثمان بن طلحة دون تردد أتى بالمفتاح، فهو الآن أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح ووضعه في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يظن أن الأمر سيصير إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم، وسيعطي المفتاح إلى إنسان غيره، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع المفتاح مرة ثانية في يد عثمان بن طلحة، وقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم". وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار بكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام: "خذوها خالدة تالدة". وكانت هذه من أكبر وأرقىوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكةلقد فعل صلى الله عليه وسلم أمراً من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول حاربت دولة أخرى، لقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صحن الكعبة في يوم فتح مكة ودعا أهل مكة جميعاً أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعا بعد صراع طويل جدا وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام، ومصادرة للأموال وللديار، وقتل لبعض الأصحاب، وجلد وتعذيب للبعض الآخر، بعد كل هذا التاريخ الطويل من العناء مع أهل مكة يسألهم صلى الله عليه وسلم سؤالاً واحداً فيقول: "ما ترون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم"، قال في منتهى الرحمة والعفو: "أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فأطلقهم جميعاً من غير فداء.