جدلية العلاقة بين القضية الفلسطينية والعقلية الانهزامية التي ورثها العقل العربي المعاصر بعد سلسلة من الهزائم، والانتصارات الإعلامية (أو البسيطة) أمام الكيان الإسرائيلي المحتل الذي كان ولا يزال وكيل الغرب في المنطقة، لا تزال للأسف قائمة رغم العديد من التحولات الدولية، والتي شكلت محاور في المجلات والدراسات الغربية منذ عقدين، وتصاعدت بعد حرب أوكرانيا و"طوفان الأقصى"، والضربة الأخيرة.
ورغم التهليل والتصفيق لأي صفعات ينالها الاحتلال فإن العقلية العربية لا تزال لا تؤمن بأن من الممكن أن تنتصر، وتقلب موازين القوة والعلاقات.
هذا الحديث يجر لمقدمة توضيحية لتبديد التناقض بين التعاطف والتأييد، وبين الانهزامية كثقافة ووعي، فليس كل تعاطف وتأييد يؤدي إلى الإحساس بالقوة والغلبة، فأحيانا يقتصر التعاطف بمشاعر إنسانية تصدقية تقتصر بالدعاء والصدقة، أو حتى التظاهر والتنديد لإدخال المساعدات الإنسانية فقط، دون الشعور بالقدرة وإمكانية بالنصر والغلبة، والمحصلة تكون عقلية وثقافة إنهزامية. أسباب العقلية الانهزامية يمكن أن يكون مبررا للسلطة، خصوصا في بعض الدول غير الديمقراطية، لكنه لا يبرر بتاتا للشعوب او المجتمعات العربية التي كانت دوما المحفز والباعث لحكوماتها، وهو أمر يدعو للإستغراب خصوصا مع وجود قنوات إخبارية متعددة، وغياب احتكار الدول لوسائل الإعلام كما كانت في الحروب العربية - الاسرائيلية السابقة.
وقبل التوغل بأسباب عدم انفكاك الوعي العربي من هذه العقلية الانهزامية في ما يخص الصراع مع الكيان الصهيوني، تجدر الإشارة إلى بعض من تلك المؤشرات التي توحي باستمرار هذه العقلية رغم الأحداث المتسارعة في الصراع، مع هذا الكيان منذ أربعة وعشرين عاما.
من المؤشرات القديمة التي شاعت بعد اتفاقية "كامب ديفيد" 1979 هي نظرية المؤامرة، فلا تزال هذه الوصفة العلاجية المخدرة هي أفيون التحليل السياسي خصوصا ما يتعلق بالصراع العربي- الاسرائيلي، وتستخدم هذه النظرية لتبرير الانهزامية والتشكيك بأي انتصارات، حتى وإن كانت محدودة.
التفاعل الشعبي الخجول مع "طوفان الأقصى" أمام الطوفان الشعبي الغربي المتفاعل مع الإبادة بعد أسابيع قصيرة من الإبادة، فلم نشهد في التاريخ الحديث والمعاصر غلبة التفاعل الشعبي الغربي على العربي في قضية مكانها الوطن العربي، ولعل لذلك بعض الأسباب التي من الممكن أن يبرر لبعضها دون أغلبها.
فالوعي الانهزامي وغير الواثق بقدراته هو الذي يحسر التفاعل والتنديد، ويقتصر التفاعل على الدعم الإنساني، وكأن القضية الفلسطينية رجلا فقيرا يمكن التصدق له، لكن لا يمكن علاج فقره، أو ظاهرة الفقر في الحي.
من المؤشرات أيضا الاقتصار على السرديات الغربية المعربة لتفسير "الصراع" في فلسطين المحتلة، كونها ترضي النفس الانهزامية، وكأنها سحابة صيف وليس كونها بوصلة التحولات، الاقليمية والدولية، في المنطقة، كما تقر بذلك مطابخ الدراسات والبحوث الغربية، وهو ما يجر أيضا إلى الإعتقاد بالقوة الغربية و"المارد" الإسرائيلي، وعدم القبول بوجود ند مقاوم له.
ومن المعروف في تاريخ هذه السرديات أن شيئا واحدا هو الثابت دوما، وهو الكذب، ويمكن لمراجعة بسيطة للوثائق المفرج عنها حول الحروب العربية - الاسرائيلية، وحجم خسائر الكيان التي أسرها، ولم يعلن عنها، لإثبات مدى الكذب الغربي والاسرائيلي، بل إن كيان الاحتلال اليوم يقر علنا أن الإعلام الرسمي، وغير الرسمي، مراقب ولا ينشر شيئا إلا بإذنه.
أما الأسباب التي أدت وتؤدي لهذه العقلية الانهزامية، فأولها الجهل وعدم التفحص والقراءة، وهو المؤدي أيضا لتبني لأفكار المؤامرات والقوى التي لا تقهر والشعور بالهزيمة والانحطاط.
ومن تفريعات الجهل أيضا العقلية الطائفية التي تحصر وتصنف القوى ضمن تصنيفات إثنية ومذهبية، وبالتالي الضد مهما بلغ من قوة ونصر فهو عدو، وتغلف أيضا بالمؤامرة والصور المسرحية للأحداث.
من الأسباب الأخرى أيضا التخلف والشعور به، أي تخلف الدول العربية عن الركب التكنولوجي والاكتفاء الذاتي، والذي تشعر بها المجتمعات التي نشأت على التسليم بجودة الصناعات الاوروبية والغربية، من الحذاء الإنكليزي إلى روبوتات المصانع الألمانية.
فكيف بدول أقصى ما تنتجه بعض الحلويات والمكملات، وبآلات غربية قادرة على مجابهة ترسانة عسكرية اسرائيلية ممولة من جميع دول العالم "المتقدم"، فيكون الإنهزام أساس الوعي والثقافة العربيتين.
لا شك أن لأسباب الانهزام في العقلية العربية قائمة طويلة مكرسة لأجيال، لكن يظل الرهان على الأجيال الحديثة أو ما بات يسمى "الجيل زد".
كاتب كويتي
[email protected]