ماذا لو أنّ الإنسان يحاسب نفسه دائماً، ويعترف بتقصيرها أو يقتلع منها الكراهية والتسلّط والعنف؟ ألاَ يكون حينها أجمل وجوداً في الحبّ والتسامح والإيثار والذكاء والتفاني والرحمة والتواضع والشهامة والنبل والشفافية؟
ولماذا لا يشمئز الإنسان من كونهِ، كاذباً أو كارهاً، أو عنيفاً أو منافقاً، أو متسلطاً أو حاقداً أو مخطئاً أو مسيئاً؟
لا يكون الإنسان هكذا دائماً بطبيعة الحال، لأنّه بالتأكيد يستطيع أنْ يكون ذكياً ومجتهداً وخلوقاً ومحبّاً ومخلصاً.
وفي الوقتِ نفسه لا يشعر أبداً وهوَ في كلّ ذلك، بالضعف أو المهانة أو الهشاشة، أو الضمور أو التلاشي، أو التضعضع أو الانكسار، فقيمته الإنسانيّة إنّما يجدها تتمثّل في ما يستحقّه من وجودهِ إنساناً في نظرتهِ إلى ذاته، ووافر الاتزان والهدوء والتواضع والثقة.
إنّه يرى في وجوده هكذا ساعياً إلى حماية الأخلاق الإنسانيّة من التهميش، أو الطعن، أو التشويه. هذا الإنسان لا يرى في أخلاق التسامح والتهذيب والتواضع، ترفاً أو تصنّعاً، بل يرى فيها وجوده الإنسانيّ الذي يكتمل أخلاقاً بوجودهِ إنساناً صانعاً للحياة الخالية من الكراهية والحقد، والتعصَّب والتّعالي.
إنّه لا يعجز عن كونه محبّاً ومتسامحاً، لأنّ العجز عن ذلك، إنّما هو عجزٌ عن تحقيق إنسانيّته الراقية، والمتسامحة، وعجزٌ عن امتلاك حقيقتهِ التي يرى إنّها بالضّرورة أنْ تكون مقياساً حقيقيّاً لإنسانيّتهِ في قيم الحبّ والرقيّ.
هناك أشياءٌ في الحياة، لا يمكننا إلاّ أنْ نلتفتَ إليها، ونضعها نصب أعيننا، ونسعى إليها دائماً، لأنّها في الأساس تبقى دائماً جوهريّة في إنسانيّتنا، وتفكيرنا واختياراتنا، وعلاقتنا مع ذواتنا ومع الآخر.
إنّها بالتأكيد القيم التي يجد فيها الإنسان وجوده وجوهره، وتالياً مقياس الحياة النظيفة، والذكيّة والمعطاءة، ويعتقد أنّ معظم الأشياء في الحياة، قد تزول أو تضمر، بينما وحدها قيم التسامح والتعايش والرحمة، لا تزول، لأنّ فيها يتركّز معظم جهده لمحاولة بناء الذات الراقية والمهذّبة، وفيها أيضاً تتلخّص كلّ امكاناته في توفير المناخات الخالية من سموم الكراهيات والأحقاد، والعداوات.
إنّ ما تملكه في قلبك وفكرك من قيم ستراه ماثلاً في طريقك، يأخذكَ إلى أجمل ما تستطيع أن تفعله تجاه الآخر، ويأخذكَ إلى ذاتك التوّاقة لفعل الجمال الإنسانيّ، لأنّك لا تعايش الكراهية، ولا تعتاد على القباحةِ في فعلك، ولا تمارس الكذب، ولا تعتدي على غيرك لمجرد أنّه يختلف عنكَ في دينه، أو عرقه، أو لونه.
ولعلّ ما يجدر بنا أنْ نلتفتَ إليه دائماً، حين يشعر الانسان أنّ عليه أنْ يتقدَّم لِمساعدة ومحبّة غيره، فالإنسان مسكونٌ بالمحبّة والتسامح تجاه الآخر، لكنّه فقط يستطيع أنْ يشعر بذلك في أعماقهِ، متى استطاع التدرب على محبّة ذاته، كي يرى في الآخر جانباً من محبّته وتسامحه.
فالإنسان يضيق من كونهِ لا يعرفُ كيف عليه أنْ يحبّ غيره، لأنّ شعور الكراهية يصيبه بالسأم والتوحش والوحدة، والضعف والأنانيّة، وليس أمامه إلاّ أنْ يتخلّص من كلّ ذلك، لكي يشعر بالمحبّة والصفاء والانشراح في أعماقه.
ولأنّه أصبح يعرفُ أنّ عليه أنْ يتخلّى عن شرور تعقيداته التحيّزيّة بشأن الآخر، إثباتاً منه باستحالة أنْ يكون كلّ الاخرينَ أشراراً، أو فاسدينَ، أو مخربينَ، أو كارهينَ.
في الحبّ أنتَ تلامس جوهر وجودك، وفي التسامح أنتَ تكتشف معنى الآخر، وفي التواضع أنتَ تحترم ذاتك، وفي الامتنان أنتَ لا تقلّل من قدر ذاتك، بقدر ما تزيدها تهذيباً واحتراماً وعرفاناً وشكراً في غيرك.
وفي العطف أنتَ لا تشعر بالضعف أو التراجع، فكلّ ذلك من شأنهِ أنْ يمدَّ أعماقكَ بالحبّ والانسجام مع ذاتك، وهيَ التي تخبركَ دائماً أنّكَ قد تعرَّفتَ كثيراً على جوهر وجودك، فالحياة تميل دائماً إلى أولئك الذين يمدُّونها بالحبّ والتسامح، لأنّها في الأصل تكون حيث تكون كلّ تلك القيم أساس وجودها، ومنبع إنسانيّتها.
كيف يستقيم أنْ تطلبَ محبّة واحترام وتسامح الآخرين، وتعاليمك وموروثاتكَ تزدحمُ بالكراهية والعنف، والشتائم لهم؟ منتهى الوقاحة أنْ تستبشع في الآخرين قِيمهم وانجازاتهم، وأخلاقهم، لِمجرد أنّهم ليسوا على دينكَ أو موروثاتكَ، أو مذهبك.
حين لا تستطيع أنْ تخرج من سجون كراهياتك، ومن هلوسات تعاليمك الاقصائيّة، لن تستطيع أنْ ترى في الحبّ حياةً، ولا تملكُ أن تعرفَ التسامح، ولا تفهم لماذا عليكَ أنْ تتخلّى عن كلّ ما يجرُّكَ إلى التزمت والتعصب، والعنف. لا يمكنكَ أنْ تفهمَ أنّ في جمال الحبّ والتسامح، وجد الإنسان توقه الشديد بالحياة الرائعة، وأيضاً ولعه الكبير بالفنون والتنوّع والانفتاح، والتغيير.
فالإنسان عندما يُغرم بكلّ ذلك، يدركُ حتماً كيف عليه أنْ يجد فيه حبّه وتسامحه، ويتأكّد أنّه في كلّ ذلك أيضاً يولد متعافياً من شرور الكراهية والعنف والحقد.
كلّما تخفّف الإنسان من أثقال الكراهيات، يقطع أشواطاً كبيرة إلى أنّ الحياة تبقى أبداً حرَّة وملهمة ومبدعة، وهذا بالتأكيد يمنح الإنسان رؤية أجمل، اذ تبقى دائماً تتشكّل إبداعاً وتنوّعاً، ولمعاناً في الجمال الإنسانيّ.
وتصبح تالياً زاد الإنسان في معايشة الواقع وفقاً لحقيقةِ أنّ الجمال ندركه كثيراً حين نختاره، ونصنعه ونرعاه بإنسانيّتنا المحبّة والمتسامحة.
كاتب كويتي
[email protected]