قصص إسلامية
هذا الرجل الذي أقام العدل في زمانه حتى عبقت بذكره الأرجاء، وانقادت له الممالك، وخضعت حتى صار النصر له رفيقا.
السلطان المجاهد الزاهد أبو المظفر محيي الدين محمد أورانك زيب عالمكير، سلطان مملكة شبه القارة الهندية، وما حواليها في القرنين 10واوائل القرن 11 الهجري.
ولد السلطان في بلدة دوحد في كجرات بالهند 24 من أكتوبر 1619.
ظهر من أورانك زيب منذ صغره علامات الجد والإقبال على الدين، والبعد عن الترف والملذات، وترعرع على مذهب الإمام أبي حنيفة، كما أنه جمع بين الفروسية والشجاعة.
تعلم فن الإدارة، فكان من ملوك المسلمين القلائل الذين برعوا في إدارة الدولة، ورغم ذلك فإنه قاد الجيوش بنفسه في عهد أبيه؛ فقمع الثورات، وطهر البلاد، وأظهر في الأرض العدل، وكانت له هيبة، وظل الأمر كذلك حتى وفاة أمه ممتاز محل.
طمع الأخ الأكبر لأورانك زيب في الحكم، ووثب على كرسي أبيه، فاستولى على كل شيء إلا الاسم؛ فظل يحكم باسم أبيه.
لم تدم الحال طويلاً حتى استطاع أورانك زيب أخذ الحكم لنفسه، وعمل على قمع الثورات التي شنها إخوته عليه، وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد، وكان وقتها عنده من العمر 40 سنة، وظل في جهاد 52 سنة حتى خضعت له شبه القارة الهندية، من مرتفعات الهيمالايا إلى المحيط ومن بنغلادش اليوم إلى حدود إيران.
شهدت إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند في عهد أورانك زيب (1658 -1707) أقصى امتداد لها؛ حيث لم يبق إقليم من أقاليم الهند إلا خضع للسلطان، فاستطاع تحويل شبه القارة الهندية إلى ولاية مغولية إسلامية، ربط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها تحت قيادة واحدة.
خاض المسلمون في عهده أكثر من 30 معركة؛ وقاد هو بنفسه 11منها، وأسند الباقي إلى قواده.
أبطل أورانك زيب 80 نوعًا من الضرائب، وأقام المساجد والحمامات، والخانقات والمدارس، والبيمارستانات، وأصلح الطرق وبنى الحدائق، وعين القضاة وجعل له في كل ولاية نائباً عنه، وأعلن في الناس أنه "من كان له حق على السلطان فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه".
وأظهر تمسكه بالإسلام والتزامه بشرائعه؛ فأبطل الاحتفال بالأعياد الوثنية؛ مثل عيد النيروز، ومنع عادة تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له، ومنع الخطب الطويلة التي تقال لتحية السلطان، واكتفى بتحية الإسلام، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وصرف أهل الموسيقا والغناء عن بلاطه.
وأتم السلطان حفظ القرآن الكريم وهو يجلس على كرسي الحكم، وعين للقضاة كتاباً يفتون به على المذهب الحنفي، فأمر بتأليف الكتاب تحت نظره وإشرافه، واشتهر الكتاب باسم "الفتاوى الهندية"، أو "الفتاوى العالمكيرية"، يعرفه كل طلبة العلم.
بنى مسجد "بادشاهي" في لاهور بباكستان؛ الذي ظل إلى الآن شاهدًا على عصر عزّ المسلمين، وقضى على فتنة البرتغاليين في المحيط، وكان يصوم رمضان كاملاً، ولا يفطر إلا على أرغفة من الشعير من كسب يمينه من كتابة المصاحف، لا من بيت مال المسلمين، وكتب مصحفين بخط يده، وأرسل واحداً إلى مكة والآخر إلى المدينة.
كان يخضع للمشايخ ويُقربهم ويستمع إلى مشورتهم ويعظم قدرهم، وأمر قواده أن يستمعوا إلى مشورتهم بتواضع شديد؛ حتى إنه سمع أن نائبه بالبنغال اتخذ مثل العرش يجلس عليه، فنهره وعنفه، وأمره أن يجلس بين الناس كجلوس عامتهم.
خصص موظفين يكتبون كل ما يقع من أحوال رعاياه ويرفعونه إليه، وأبطل عادة تقديم الهدايا إليه كما كان يُفعل مِنْ قبل مع أسلافه، وكان يجلس للناس ثلاث مرات يوميا دون حاجب يسمع شكاواهم.
دخل ملايين من المنبوذين في الهند في الإسلام، ووقف حائلاً أمام المد الصفوي على البلاد، وألف كتاباً شرح فيه أربعين حديثا شريفا على غرار الأربعين النووية.
توفي السلطان أورانك زيب عالمكير 20 من فبراير 1707بعد أن حكم 52 سنة، وكان قد بلغ من تقواه أنه حين حضرته الوفاة أوصى بأن يُدفن في أقرب مقابر للمسلمين، وألا يعدو ثمن كفنه خمس روبيات، بذلك يكون عمر السلطان حين وفاته 90 سنة.
وبوفاة السلطان أبو المظفر محيي الدين محمد أورانك زيب عالمكير، انتهت عظمة دولة المسلمين في الهند فجاء من بعده حكام ضعاف، وظل الأمر كذلك حتى انتهت تماما بسقوط آخر سلطان بهادر شاه الثاني عام 1857 بواسطة الإنكليز، ولم تقم للإسلام قائمة منذ ذلك الزمن في تلك البلاد الشاسعة.
إمام وخطيب
[email protected]