الأحد 08 سبتمبر 2024
35°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
 محمد الفوزان
كل الآراء

الأيام الأخيرة من تحرير فلسطين

Time
الأربعاء 24 يوليو 2024
View
60
محمد الفوزان
قَصصٌ إسلامية

قرَّر صلاح الدين تحرير بيت المقدس، وبعد معركة حطين الحاسمة في 23 ربيع الآخر 583 هجرية (1187م) سحق فيها صلاح الدين جيش مملكة بيت المقدس الصليبية.

وتمكن خلال ثلاثة أشهر أن يسترد أكثر من ثمانين مدينة وقرية وحصنا، وما يتبعها من مساحات تزيد بكثير عن مساحة فلسطين المغتصبة التي يحتلها الصهاينة اليوم.

وكانت بيت المقدس الصليبية في حالة سيئة جداً، لأن جيشها دُمِّرَ بكامله في معركة حطين، ولم يبق من الصليبيين إلا القليل من الجنود، وأعداد كثيرة جداً من النساء والأطفال والشيوخ والرهبان.

وكان أمير صيدا الصليبي باليان دي أبلين قد سلَّم صيدا لصلاح الدين عندما حاصرها، واستأذن في أن يسمح له بالذهاب الى بيت المقدس ليأخذ زوجته وأطفاله، ثم يغادر إلى أوروبا. فسمح له صلاح الدين بعد أن أقسم له على الأنجيل، ألا يمكث فيها إلا ليلة واحدة ثم يغادرها.

لما وصل دي إبلين الى بيت المقدس اجتمع حوله النساء والأطفال والشيوخ، واخذوا يبكون ويتوسلون إليه أن يتولى أمرهم، ويدافع عنهم أمام هجوم صلاح الدين، فحنث باليان بقسمه، وتولىَّ أمر بيت المقدس، جند الشيوخ، حتى من الذين تجاوزا سن الستين من العمر، والفتيان الصغار من سن الرابعة عشرة، وما فوقها.

ثم أرسل الصليبيون في بيت المقدس، وفداً من وجهائهم إلى صلاح الدين، وهو يحاصر عسقلان يطلبون منه الصلح، فعرض عليهم أن تستسلم بيت المقدس بالشروط نفسها التي استسلمت بها المدن الصليبية الأخرى، وأن يؤمنهم على أرواحهم، ونسائهم وأولادهم، وأموالهم، ويسمح لمن يشاء منهم بالخروج سالماً.

لكن الصليبيين رفضوا العرض ورأوا "أن الموت أيسر عليهم من ان يملك المسلمون البيت المقدس"، كما قال ابن واصل. أصرَّ صلاح الدين على أن تستسلم بيت المقدس دون قيد أو شرط، وأقسم أن يأخذها بحد السيف، إذا لم تستسلم، كما أخذها الصليبيون قبل إحدى وتسعين سنة.

ولما سمع المسلمون بعزم صلاح الدين على استردادها توافد إليه الكثير من العلماء والمتطوعين، وطلاب العلم من دمشق وحلب ومصر والعراق، ومنهم العماد الكاتب الأصفهاني الذي كان مريضاً في دمشق، فلما علم بعزم صلاح الدين شُفِيَ من مرضه، وارتحل نحو بيت المقدس للمشاركة في ذلك الشرف العظيم.

سار صلاح الدين بجيشه نحو بيت المقدس، ودار حولها خمسة أيام ليهاجمها من أضعف نقطة في أسوارها، ثم عسكر بجيشه في الجهة الغربية منها، ووجد أن في تلك الجهة أودية يصعب مهاجمة المدينة منها، فاستقر في الجهة الشمالية منها من ناحية باب العمود، وهي أقرب إلى الأسوار، فضلاً عن الابتعاد عن تأثير الشمس في الجهتين الغربية والشرقية.

ثم امر بإحضار المنجنيقات، وآلات الحصار والنقابين المتخصصين في نقب الأسوار، وبدأ الحصار والضغط على أسوارها في العشرين، وخلال أسبوع واحد، تمكن النقابون من نقب ثلاثة وأربعين نقباً في أسوارها، وجمعوا الحطب وأدخلوه في تلك النقوب لإشعال النار فيه كي يمكن هدم الأسوار.

وارسل باليان دي إبلين وفداً إلى صلاح الدين يعرض عليه استسلام بيت المقدس بشروط، لكن الايوبي رفض، فخرج باليان دي إبلين بنفسه وطلب الأمان منه، ولما مثل بين يديه، عرض ان تستسلم بيت المقدس مقابل حقن دماء أهلها من الصليبيين والخروج بأموالهم، كما فعل صلاح الدين مع المدن الأخرى.

فرفض القائد المسلم، وأصرّ على انه سيفتحها عنوة كما استولى عليها الصليبيون من قبل، عندئذ خاطب دي بلين صلاح الدين بطريقة فيها استرحام واستعطاف. فقال له: "اعلم أيها الملك إنَّا خلق كثير في هذه المدينة، وإذا رأينا الموت لابد منه فو الله لنقتل أبناءنا ونساءنا ونحرق ما نملكه من أموالنا وأمتعتنا ولا نترككم تنعمون منا ديناراً ولا درهماً ولا تأسرون رجلاً ولا امراة. فإذا فرغنا من ذلك خربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرها من المواضع الشريفة، ثم نقتل من عندنا من أسرى المسلمين، ثم خرجنا إليكم وقاتلنا قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه".واستشار صلاح الدين أصحابه وقادته فأشاروا عليه أن تستسلم المدينة، وكأنها وقعت عنوة، فيصبح الصليبيون وكأنهم رقيق، يشترون أنفسهم من المسلمين، بأن يدفع الرجل عن نفسه عشرة دنانير مقابل حريته، وتدفع المرأة عن نفسها خمسة دنانير، والطفل يُدْفَع عنه دينار واحد، ومن مرّ عليه أربعون يوماً ولم يستطع الدفع يصبح عبداً يُباع في أسواق الرقيق.

فوافق صلاح الدين على هذا الاقتراح ووافق عليه أيضاً باليان دي إبلين، وتعهد أن يدفع مبلغ ثلاثين الف دينار عن سبعة آلاف من فقراء ومعدمي الصليبيين.

وفي يوم الجمعة 27 رجب من تلك السنة، دخل المسلمون بيت المقدس، في ذكرى ليلة الاسراء والمعراج.

وابدى صلاح الدين كرماً جماً وتسامحاً فريداً في معاملة الصليبيين، فرفض اقتراح بعض المسلمين بهدم كنيسة القيامة، واطلق سراح الفقراء من اليتامى والارامل والشيوخ دون فداء، بل وتصدق عليهم من ماله الخاص، وقد أهدى لأخيه العادل وبقية أخوته واصحابه آلاف الأسرى، فاعتقوهم لوجه الله تعالى، وقد اسهبت المصادر الصليبية والإسلامية في الحديث عن تسامح صلاح الدين وكرمه، حتى أن ستيفن رنسيمان علَّق على ذلك التسامح والكرم بقوله: "لقد لقن صلاح الدين الفرنج درساً في التسامح وأظهر لهم كيف يحتفل الرجل الشريف بانتصاره". وقد تعجب المسلمون من تصرف بطريرك القدس الكاثوليكي هرقل الذي أخذ كل أموال الكنيسة ونزع الذهب عن القبر المقدس، ثم دفع عن نفسه عشرة دنانير وخرج بكل تلك الأموال والطنافس دون ان يعبأ بآلاف الصليبيين الذين عجزوا عن شراء أنفسهم، بل وطمع في كرم صلاح الدين وطلب منه أن ينعم عليه ببعض الأسرى ليعتقهم، فأنعم عليه صلاح الدين بسبعمائة أسير.

ثم شرع صلاح الدين في إزالة ما اقامه الصليبيون من صور ونقوش داخل المسجد الاقصى وقبة الصخرة ومحراب الأقصى، وبعد إزالة تلك الصور، أمر صلاح الدين بغسل المسجد الأقصى وقبة الصخرة بماء الورد.

وأُقيمت أول خطبة جمعة، في المسجد الأقصى بعد تحريره من براثن الصليبيين في الرابع من شعبان سنة 583 هجرية، وهي خطبة مزؤثرة.

إمام وخطيب

[email protected]

آخر الأخبار