الخميس 19 سبتمبر 2024
30°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
 محمد الفوزان
كل الآراء

المنافقون في غزوة الأحزاب بين الأمس واليوم

Time
الأربعاء 11 سبتمبر 2024
View
70
محمد الفوزان
قَصص إسلامية

لا يُعرف من كان صادقا في إيمانه من الكاذب، ولا المؤمن من المنافق إلا بالاختبار والابتلاء؛ ولذا كان من سنة الله تعالى في عباده أن يبتليهم بأنواع من الضراء والبأساء، حتى يتميز صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من منافقهم، وطيبهم من خبيثهم "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ" (العنكبوت:2 - 3).

وقد ابتلي خيار هذه الأمة: رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وصحابته (رضي الله عنهم) أعظم الابتلاء، فثبتوا على دينهم فنالوا الحسنيين: الظفر على أعدائهم، والأجر الكبير من ربهم عز وجل.

وكان من مواطن الابتلاء ما به خيار هذه الأمة في غزوة الأحزاب، حيث تحزبت أحزاب المشركين عليهم، ونقض اليهود عهودهم ومواثيقهم، وطعنوا المؤمنين في ظهرهم، وأظهر المنافقون نفاقهم، وبثوا أراجيفهم فكان موقفا عسيرا لا يثبت فيه إلا من ربط الله تعالى على قلبه بالإيمان واليقين، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، والتصديق بوعده، ويكفي في وصفه قول الله تبارك وتعالى "وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدا".

وتميَّز المؤمن من المنافق: أما المؤمنون فثبتوا مع النبي (عليه الصلاة والسلام)، وصبروا على عظيم البلاء.

جاعوا أشد الجوع، وتكالبت عليهم الأعداء فما انخذلوا ولا تراجعوا، وأرجف فيهم أهل النفاق فلم يطيعوهم، ورأوا أن ما أصابهم هو ما وُعدوا به في سورة البقرة، ولذا لما رأوا ما رأوا في الأحزاب ما زادوا على أن قالوا: "هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانا وَتَسْلِيما".

وأما المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بالنفاق فارتابوا في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وشكُّوا في دينه، وتبعهم ضعاف الإيمان الذين مرضت قلوبهم بأدواء الشبهات أو الشهوات، فلم يُصدِّقوا أن الله تعالى ينصر نبيه، وقد تحزبت الأحزاب، واجتمعت الجموع، وطوقت المدينة من كل جهة "وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورا".

فانقسم المنافقون والذين في قلوبهم مرض الى طائفتين:

واحدة أخذت تخذل المؤمنين، وتبث الأراجيف، ويخوفونهم بأعدائهم، "وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا" أي: لا مقام لكم في أرض المعركة؛ لكثرة عدوكم.

ولئن كانت هذه الطائفة من المنافقين ومرضى القلوب تبثُّ أراجيفها، فإن طائفة أخرى طبقت ذلك عملياً حين اختلقت المعاذير لتغادر المعركة؛ فتفتَّ في عضد المؤمنين، وتوهن قوتهم، وتصدع ثباتهم، وهي الطائفة التي عناها الله تعالى بقوله سبحانه "وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارا".

إنهم يعتذرون بِخُلُوِّ بيوتهم وذراريهم ممن يدافع عنهم، مع أن حال المؤمنين كلهم كحالهم فلم يعتذروا ولم يفروا، ففضح الله تعالى المنافقين، وبيَّن سبحانه أنهم سراع إلى الفتنة، وأن المشركين لو دخلوا المدينة لانحازوا هم إليهم، وقَبلوا شركهم؛ لنفاقهم ومرض قلوبهم "وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا".

فهم المعوقون عن النفير، المخذلون في صفوف المؤمنين، علم الله تعالى ذلك منهم، فقص على أهل الإيمان خبرهم "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ"، أي: بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله تعالى.

ومن أوصافهم التي تدل على نفاقهم أنهم أشدُّ ما يكونون خوفاً إذا جدَّ الجد، ودارت رحى الحرب، وأشدُّ سلاطة وبذاءة إذا أَمنوا، وأكثرُ الناس مطالبة بغنائم لا حقَّ لهم فيها "فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرا".

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): "وهذا السلق بالألسنة الحادة يكون بوجوه: تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة.

وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.

وتارة يقولون: أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو وقد غرَّكم دينكم، وتارة يقولون: أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم، وتارة يقولون: أنواعا من الكلام المؤذي الشديد، وهم مع ذلك أشحة على الخير".

كل هذه المقولات عن المنافقين في الأحزاب، وذكر أن المنافقين ومرضى القلوب في زمنه يرددونها، هي في واقع الأمر مما يردده المنافقون في عصرنا هذا، وستبقى ملازمة لهم في كل زمان ومكان.

يلاحظ أن الآيات الكريمة التي عرضت لغزوة الأحزاب ذكر فيها أوصاف المنافقين، ومرضى القلوب، ثم وصف المؤمنين وأفعالهم.

إن بيان ماجرى على أحزاب المشركين وبني قريظة ومعرفة أحوال المنافقين للحذر منهم، ومعرفة أحوال المؤمنين للتأسي بهم. ولبيان أن المنافقين موجودون في كل عصر، يُخفون كفرهم إن رأوا في المؤمنين قوة، ويظهرونه إن رأوا فيهم ضعفا، والقرآن العظيم كتاب بيان وهداية للمؤمنين، ومن هدايته ذكر أوصاف المنافقين.

وفي زمننا هذا لا يخفى على أحد تسلط قوى الظلم والبغي والاستكبار من الصهاينة والصليبيين على المسلمين باحتلال ديارهم، وفرض أفكارهم، وإهانة دينهم، وتدنيس قرآنهم، والسخرية بنبيهم محمد (عليه الصلاة والسلام)، ويضطلع المنافقون بالمهمة نفسها التي كانت لأسلافهم بالتخذيل في أوساط المسلمين، وتخويفهم بالكافرين، ودعوتهم إلى نبذ دينهم، والدخول في مشاريع أهل الظلم والاستكبار؛ حتى آل أمر المسلمين إلى ما آل إليه من الاختلاف والتفرق والضعف والانحطاط.

فمن ثبت على الحق فلم يبدل دينه، ولا انحاز إلى الكافرين، ولا استمع إلى أراجيف المنافقين، فقد تأسى بخيار هذه الأمة المباركة، وحري به أن ينتظم في سلك من وصفهم الله تعالى بقوله سبحانه "مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا".

إمام وخطيب

[email protected]

آخر الأخبار