قَصص إسلامية
لابن خلدون نظرية في مراحل الدول، وهي أن الأيام الصعبة تخرج رجالاً أقوياء، والرجال الأقوياء يصنعون الرخاء والترف، لكن الرخاء والترف يخرج رجالاً ضعفاء، والرجال الضعفاء يصنعون أياماً صعبة.
الأبناء ليسوا كالآباء، يذكر التاريخ الإسلامي بكل تقدير نجاح صلاح الدين في استرداد بيت المقدس من الصليبيين في الثاني من أكتوبر 1187 بعد أن كان محتلاً منذ 15 يوليو 1099، وقد تعرض المسلمون العزل للمذابح، وأبيحت المدينة المقدسة للسلب والنهب والقتل حتى امتلأت السكك والساحات بالجثث.
ولم يكد يمضي على عودة القدس إلى أحضان المسلمين 35 عاماً حتى كانت عرضة للمساومة، والتفريط، والتطبيع مع العدو، من السلطان الكامل بن العادل حفيد صلاح الدین، سلطان مصر، في واحد من أعجب التنازلات التي يقدم علیها حاكم مسلم، بعمل طائش متهور.
هذا ما أقدم عليه السلطان الكامل قبل أن تسقط دمياط في أيدي الصليبيين في الخامس من نوفمبر 1219 في حملتهم الصليبية الخامسة على مصر، فعرض علیهم، بعد أن يئس من قدرة دمياط على الصمود، استعداده لإعادة بيت المقدس إليهم مقابل الجلاء عن مصر.
لكن العجب أن هذا العرض السخي لم يلق قبولاً من الصليبيين فرفضوه، إذ كانوا يمنون أنفسهم بالاستيلاء على مصر، وظلوا في دمياط 18 شهراً من دون تحرك جاد منهم، حتى جاءه المدد من المعظم عيسى، والأشرف موسی، فتم طرد الصليبيين، وفشلت الصفقة، ونجت فلسطين، وبيت المقدس، من المقايضة.
كان المأمول أن يظل التحالف بين الإخوة قائماً وقوياً، لكن ذلك لم يدم طويلاً فانفرط العقد، وانكفأ كل واحد منهم حول ذاته يؤمن مصالحه من دون النظر إلى مصلحة الأمة، وحدثت القطيعة بينهم، فشب صراع بين الكامل سلطان مصر، وأخيه المعظم عيسى، سلطان دمشق، فاستعان كل منهما بقوى خارجية.
استنجد الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوروبا، بينما استنجد المعظم عيسى سلطان دمشق بجلال الدین بن خوارزم شاه، سلطان الدولة الخوارزمية.
كان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه فلسطين وبيت المقدس، بل وجميع فتوحات صلاح الدین بفلسطين والساحل الشامي والتطبيع وإقامة العلاقات الكاملة مقابل مساعدته في حربه ضد أخيه.
ياله من ثمن غال لهدف أرعن أحمق رخيص، فغادر فريدريك صقلية في يونيو 1228 بحملة عرفت بالحملة الصليبية السادسة، وهي من أعجب الحملات، حيث لم يتجاوز أفرادها 600 فارس، وأسطول هزيل، وعندما وصل إلى عكا وجد الأمور قد تغيرت وتبدلت فالسبب الذي استدعاه الكامل من أجله قد زال، فالملك المعظم عيسى الذي كان يعمل على التوسع على حساب إخوانه قد مات، فلم تعد هناك حاجة تدعو للسلطان للوفاء بوعده لفريدريك بعد أن اقتسم الإخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظم عيسى، المثير للقلاقل والمشكلات.
ساء موقف الإمبراطور فريدريك الثاني من تغير الأوضاع، فأخذ يستخدم سلاح المفاوضة، والاستعطاف، لتسليم بيت المقدس له، وكان طبيعياً أن يرفض الملك الكامل بعدما تبدلت الأمور، فأخذ فريدريك بالتذلل والبكاء، وكتب للسلطان أثناء المفاوضات
"أنا مملوكك وعتيقك، وليس لي عما تأمره خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي وطلوعي، فإن رجعت خائباً انكسرت حرمتي بينهم، فإن رأى السلطان أن ينعم عليَّ بقبضة البلد والزيارة، فيكون صدقة منه ويرتفع رأسي بين ملوك البحر".
وأفلحت هذه السياسة في استمالة قلب السلطان فسلمه فلسطين، وبيت المقدس، مجاناً من دون أن يبذل الإمبراطور قطرة دم، إنما حصل عليهما بدمعة عين وخداع نفس، وكان الاتفاق في يافا في الثامن من فبراير سنة 1229، وتقرر الصلح بين الطرفين والتطبيع بينهما، وإقامة العلاقات كاملة لمدة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا، فدخل فريدريك بيت المقدس في 17 مارس 1229، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة ليتوج ملكاً على بيت المقدس.
علم المسلمون، والعلماء، والمثقفون وأهل الحكمة والرأي بما فعل السلطان الكامل، فاستقبلوا النبأ بالأسى والحزن، وعم السخط أرجاء العالم الإسلامي، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى.
يصور المقريزي ما حل بالمسلمين من ألم وحزن شديد بقوله: "فاشتد البكاء، وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون والعلماء من القدس إلى مخيم الكامل، وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان، واشتد الانكار على الملك الكامل، ولما أحس السلطان أنه تورط مع ملك الإفرنج، أخذ يهون من أمر تسليم فلسطين وبيت المقدس، ويعلن أنه لم يعط الفرنج إلا الكنائس والبيوت الخربة، غير أن هذه المبررات لم تنطل على أحد من الناس، وظل بيت المقدس أسيراً قرابة 15 سنة حتى نجح الأتراك الخوارزميون في تحريره".
ولتحريره قصة أخبركم عنها بإذن الله في مقالات مقبلة، ودمتم سالمين.
إمام وخطيب
[email protected]