حين نعود إلى طرح موضوع "التأمينات الاجتماعية"، فإننا ننطلق من ضرورة تهم نحو 150 ألف مواطن، كما يستفيد من المؤسسة ورثة المتقاعدين البالغ عددهم نحو 88 ألفاً، وهذا رقم كبير، لا بد من النظر في استمرار تلك الرعاية بما يتناسب مع خدمة شريحة تتسع سنوياً، مع خروج متقاعدين جدد من سوق العمل.
في هذا الشأن، هناك حالياً نحو 238 ألفاً يعيشون من تلك المعاشات، والعجز الاكتواري المسجل على الدولة للمؤسسة، وفق الأرقام المعلنة، يتجاوز 24 مليار دينار، بينما تبقى معتمدة على الاستثمار والأرباح العائدة إلى أعمالها في الخارج العالية المخاطر، كما أثبتت التجارب، وهذه يغلفها الغموض، إذ مرة تنتشر أخبار عن ربحية معينة، فيما في اليوم التالي تنشر أخرى عن عجز متوقع.
لذا، لا يمكن الاعتماد على الأرقام المعلنة، لأنها تخضع لمزاجية المسؤول وليست فيها شفافية كافية، إذ كانت تخضع لسياسة حكومية ثابتة حيال العلاقة مع مجلس الأمة، ودرءاً للاستجوابات، فيما الحقيقة ظاهرة عبر كثير من الإخفاقات بسبب عجز القوانين المالية المرنة، والمساعدة على تلافي العجوزات.
في المقابل، إذا نظرنا إلى طبيعة المؤسسات المماثلة في العالم، وكيف تدار، ونوعية استثماراتها، لوجدنا أنها لم تقع تحت أي عجز منذ تأسيسها، جراء إدارته الواعية لجوانب توظيف الأموال لخدمة المجتمع والدولة.
فالهيئة الفرنسية للتقاعد، أو الصناديق الألمانية للتأمين الاجتماعي، وصندوق التقاعد الوطني السويدي، وغيرها الكثير من الصناديق، تعمل وفق متطلبات محددة، وقوانين متطورة، يجري تحديثها باستمرار، كي لا تقع في أخطاء تكبدها خسائر هي في غنى عنها.
فيما لدينا، في العام الماضي وحده، حققت "التأمينات" عوائد استثمارية سالبة في خمسة صناديق، كما كانت خسارتها واضحة للعيان في لبنان، حين استولت بنوكه على أموالها المودعة في العام 2019، ولا تزال إلى اليوم في علم الغيب.
لهذا، حين نجدد الدعوة إلى توظيف أموال المؤسسة في الداخل، وبنسبة معقولة لكي تتخلص من الخسائر المسجلة في بعض الدول، مع الأخذ بضرورة تنويع مصادر دخلها كما تفعل المؤسسات المشابهة لها عالمياً.
ففي تلك الدول، هناك عقول قادرة على استنباط الحلول المبتكرة في الاستثمار، كما أنها لا تعمل بناء على قواعد انتهازية في التعيينات والمحسوبيات، كما يجري عندنا، ولقد رأينا المشكلات الناجمة عن ذلك في بعض مكاتب المؤسسة الخارجية.
لا شك أن سدّ عجز "التأمينات" يجعلها أكثر قدرة على الحركة، لكنها تحتاج إلى الأدوات اللازمة لذلك كي تتمكن من البدء في استثمارات مضمونة، فالأصول العينية الممنوحة لها ليست كافية إذا لم تقترن بتحديث قوانين حركة رأس المال، ومرونتها، فالمساحات المقرة لها توازي نحو عشرة في المئة من العجز، وهذا ليس كافياً، إذ لديها القدرة على الاستثمار في أغلب مناطق البلاد، وأيضاً تدخل في العقارات والصناعة ومحطات الكهرباء وبناء المدن، وغيرها، وهذا يبدأ من تشريعات حديثة.
لا شك أن ذلك سيزيد من قدرة انفتاح البلاد على جذب الاستثمارات من الخارج، أكان في تطوير الجزر، وتحويلها مناطق ترفيهية، أو بناء صناعات تحويلية، أو غيرها مما يخدم توجه الدولة حالياً للنهوض بالاقتصاد الوطني، والاستفادة من الفرصة الإقليمية والدولية السانحة، رغم القلاقل التي تشهدها المنطقة.
على هذا الأساس، وقبل نحو ستة أشهر، كتبت "حين تسمع هدير المدافع عليك أن تبدأ بالتخطيط للبناء، وعندما تسمع زقزقة العصافير تبدأ بجني الأرباح"، وأعيدها اليوم عسى يعمل مطبخ القرار على البدء في التخطيط للبناء، وتمتين الجبهة الاقتصادية، فالمنطقة ستكون بحاجة ماسة إلى كل الصناعات والخدمات، وموقع الكويت الستراتيجي يمنحها القدرة على تأدية هذا الدور.
نحن اليوم أمام مرحلة جديدة، والمفروض أن تكون هناك ورشة عمل على كل المستويات، خصوصاً أن صاحب السمو الأمير فسح في المجال أمام الجميع كي يؤدوا دورهم بما يتناسب مع قدراتهم، فإذا كان سموه أمر بالنظر في تعديل الدستور بما يفيد مستقبل الكويت، أليس من الأجدى أن يعمل مجلس الوزراء على تعديل قوانين التأمينات والاستثمارات وغيرها الكثير مما تحتاج إليه البلاد في عملية نهوضها من كبوتها التي استمرت نحو ثلاثة عقود؟