قصص إسلامية
استطاع الصليبيون احتلال فلسطين، ومناطق واسعة من الشام في عام 1099 ميلادية، وبعد عقود تمكن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي من تحرير القدس ومناطق أخرى في عام 1187 ميلادية، لكن الصليبيين تمكنوا من إبقاء مناطق واسعة تحت الإحتلال، وأصبحت عكا عاصمة لهم، بعد خسارتهم مدينة القدس.
في السادس من مارس عام 1291 ميلادية، غادر السلطان خليل بن قالاوون القاهرة، وبحلول الخامس من إبريل العام نفسه كان جيشه يقف بمواجهة عكا، فنصب دهليزه الأحمر فوق تلة مواجهة لبرج المندوب البابوي، على مسافة غير بعيدة من شاطئ البحر، وانتشر جيش المسلمين من نهاية سور مونتموسارت حتى خليج عكا.
في اليوم التالي بدأت المناجيق برمي الأحجار الضخمة على أسوار عكا، وراح رماة السهام يمطرون المدافعين من الفرنجة المتمركزين فوق أبهاء الأبراج، وأفاريزها بسهامهم.
ثم استخدم جيش المسلمين سلاحاً يدوياً صغيراً يطلق نيراناً كثيفة وسريعة أطلق عليه الفرنجة اسم "كارابوها"، وقد أحدث هذا السلاح أضراراً بالغة بالمقاتلين الفرنجة المحتلين، وصعب عليهم التقدم نحو المهاجمين من المسلمين.
تمكن الجيش الإسلامي من إحداث أضرار، وبعض النقوب في الأجزاء الضعيفة من الأسوار، وأخذ الأمير سنجر الشجاعي، ومقاتلوه المتطوعون الجهاديون، على عاتقهم نقب سور برج جديد يسمى برج الملك، فقام الفرنجة بإشعال النار فيه.
اعتمد الفرنجة على الإمدادات، والتعزيزات العسكرية الآتية من قبرص إلى عكا عن طريق البحر، كذلك أصبحوا يشنون غارات ليلية على معسكر جيش المماليك.
وفي الرابع من شهر مايو استرد الفرنجة بعض الثقة والأمل، حين وصل الملك هنري الثاني من قبرص، وفي صحبته 40 سفينة محملة بالمقاتلين المرتزقة، والعتاد.
لم تنجح تعزيزات المحتلين في تغيير مسار المعركة، فاستمر جيش المسلمين في قصف أسوار عكا حتى بدأت أبراجها تصاب بأضرار بالغة نتيجة دكها المستمر بالمناجيق، وتنقيبها عن طريق المهندسين المسلمين، فانهار برج الملك هيو، وتبعه البرج الإنكليزي، وبرج الكونتيسة دو بلوا.
وفي فجر يوم الجمعة 18 مايو (17 جمادى الأولى سنة 690 هجرية) سمع الفرنجة في عكا قرع طبول جيش المسلمين، اذ بدأ زحفاً شاملاً تجاه عكا وامتداد الأسوار، وكانت الطبول قد حُملت على ثلاثمئة جمل لإنزال الرعب في صدور الفرنجة المحتلين، بصوت هديرها.
وقد اعتمر قادة جيش الفتح عمائم بيضاء، وراحت تتدفق على شوارع المدينة حيث دار قتال عنيف بينهم وبين جنود الاحتلال، وسادت عكا حالة من الفوضى العارمة والرعب الهائل، واندفع سكانها المذعورون إلى الشواطئ بحثاً عن مراكب تنقلهم بعيداً عنها، ولا يدري أحد بالتحديد كم منهم قُتل في الأرض، أو كم منهم ابتلعه البحر.
أعلن المحتلون استسلامهم، وتسليم المدينة، وفر عدد كبير من أمرائهم في مراكبهم، وبقي عدد منهم موجوداً في أحد حصون المدينة لترتيب أوضاعهم، وشؤون السكان الفرنجة، فأرسل السلطان الأشرف قالاوون الأمير كتبغا المنصوري ليقدم العفو الشامل والأمان، بأن يخرج المحتلون من دون خوف، وفعلاً غادر الفرسان التوتونيون الفرنجيون مع عائلاتهم.
وبعد مغادرة أولئك الفرسان أقدم المحتلون المتبقون في الحصن على الغدر، وقتلوا الأمير كتبغا المنصوري، فخرج من الحصن الأمير الفرنجي دي سيفري في محاولة لإصلاح الأمر فقتله السلطان خليل، وكذلك قتل الوفد الذي معه انتقاماً لمقتل الأمير كتبغا المنصوري، ثم خرج باقي الفرنجة، وغادروا المدينة بعد أن اخذوا عهوداً جديدة بالأمان.
وصلت أنباء انتصار جيش المسلمين، وتحريره عكا إلى دمشق والقاهرة، ففرح الناس وزينت المدن، ودخل السلطان خليل دمشق ومعه الأسرى الفرنجة مقيدون بالسلاسل، وقوبل الجيش الإسلامي بالاحتفالات، ورفع رايات النصر، وزينت دمشق، وعمت البهجة بين الناس.
الأمة الإسلامية خلال تاريخها الطويل أنجبت نماذج كثيرة من الشخصيات والأبطال العظام الذين خلدهم التاريخ، وسطر أمجادهم بأحرف من نور، ودافعوا عن حياض الإسلام والمسلمين، حملوا لواءه ونشروا رسالته الحضارية، بين الأمم، وهم يسيرون على هدي القرآن الكريم، وعلى نهج النبوة الشريفة، متمثلين أخلاق الرسول الكريم وخصاله الحميدة، وحكمته، وحلمه، وشجاعته، وكرمه، وصدقه، قال الله تعالى في كتابه العزيز: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (سورة الأحزاب 22 ).
وسيرة أبطال الإسلام غنية بالعبر، والعظات، والدروس التي لا تنفد، وكانوا قدوة ومثالاً يحتذي بهم الشباب على مر العصور، يهتدون بنهجهم، وفكرهم، وسلوكهم، وخلقهم.
وشبابنا اليوم بأشد الحاجة إلى هذه السيرة البطولية، وقيمها، ومعانيها السامية، والاستفادة من نهجها، لتنير طريقهم وترشدهم إلى جادة الصواب.
إمام وخطيب
[email protected]