حين تعرّضت الصين لغزوات كثيرة، في القرن الثالث قبل الميلاد، بُني السور العظيم الذي تشكَّل من مجموعة تحصينات للدفاع عن ممالكها في وجه القبائل الشمالية، والتتار والمغول، وبعدها من اليابان.
في المئة عام الأولى على بناء السور، شُنّت ثلاث غزوات، لأن الغزاة كانوا يدفعون رشوة إلى الحراس، فيفتحون البوابات ويمر الجنود منها دون عناء.
على هذا المنوال، سارت كل المعارك الصينية مع الغزاة، وكانت أهمها الحرب مع اليابان في القرن التاسع عشر، إذ رغم كثرة عدد الصينيين، إلا أن اليابانيين استطاعوا احتلال البلاد، واستسلمت بكين.
في تلك الفترة، أدرك اليابانيون أن الجهل، وعدم التربية الوطنية هما السبب في ضعف الصين، خصوصاً أنهم كانوا قد خاضوا "حرب الأفيون" طوال نحو مئة عام، التي تركتهم بين مطرقة الإدمان، وسندان الأمية، وعدم معرفة القدرة على مواجهة الآفات السلبية التي تركتها تلك الغزوات.
ولكي لا تقع اليابان في الأزمة نفسها، عمدت طوكيو منذ ذلك الوقت إلى تعزيز التعليم، في أنحاء الإمبراطورية كافة، وعملت على منح المعلمين امتيازات كثيرة، ولهذا كان الأرخبيل الياباني، الذي تتشكّل من جزره تلك الدولة، فرضت قرارها على مجموعة دول في تلك المنطقة واحتلت بعضها، فيما في العصر الحديث أصبحت في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، قوة لا يستهان بها، دفعت الولايات المتحدة إلى قصفها بالقنابل الذرية لتفرض عليها الاستسلام.
في كل تاريخها لم تستهن طوكيو بالتعليم، بل عملت على تطويره، ومنحت المعملين أعلى الرواتب والامتيازات، لأن القناعة أن هؤلاء هم بناة الأجيال، الذين ينتجون المهندسين والأطباء والقادة والمواطنين المخلصين لوطنهم.
في كل العصور والأديان، كان التعليم هو المقياس لأي حضارة، ولقد قال أحد المفكرين: "لكي تهدم حضارة، عليك بالتعليم وعليك بالمعلم، لا تجعل له أهمية في المجتمع، وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه"، هذا ينطبق على غالبية الدول العربية، ومنها الكويت، إذ هي تتعامل مع المعلم على أنه نكرة لا أهمية له، بل تجعله في حاجة دائماً، لذا يلجأ إلى العمل في شتى المهن كي يوفر قوت عياله، وهو غير مرتب الهندام، يعاني من ضيق ذات اليد.
اليوم في الكويت يتحدثون عن التنمية، وينسون أهم ركيزة، وهي أن التعليم هو السبيل إليها، لأنه الذي يعمل على شق طريق المجتمعات إلى المستقبل، ومن خلاله تتاح الكثير من الفرص، للإبداع والعمل الناجح، وهو يوفر الاكتفاء الذاتي في شتى المجالات، لأنه يقوم على التفكير والتحفيز، وليس على تعليم الأمية، حين يتحول أداة جهل.
لقد كانت النكسة الأولى في التعليم بالبلاد عام 1976 حين سمح للمعلمين الكويتيين الدخول إلى العمل في القطاع الخاص، لأنه حينها لم ينظر إلى التعليم على أساس أنه مهنة مقدسة، ومهمة وطنية، ولأن الإنسان بطبعه يبحث عن المزيد من الثروة، هجر المعلمون المهنة، واشتغلوا في شركاتهم ومحالهم.
منذ ذلك الوقت، بدأ الاعتماد على المدرس المقيم، وهذا وفقاً للراتب الذي يتقاضاه، وحاجته إلى إرسال ما يقي عائلته من العوز، وكذلك توفير معيشته، اضطر إلى العمل في الدروس الخصوصية، التي أصبحت أهم لديه من حصصه المقررة في المدرسة، أصبح التعليم يُخرّج نصف أميين وجهلة.
لهذا، إذا كانت هناك جدية في الإصلاح والتنمية والتطوير، لا بد من العودة إلى التعليم، الذي هو أساس بناء المستقبل، فلا دولة قوية إذا كان الجهل يضربها من كل الجهات، وإلا فإننا سنبقى نحرث في بحر.