قصص إسلامية
"وصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج فقامت قيامة بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث أقيمت المآتم؛هذا مشهد آخر من تاريخنا" جانب مظلم صوَّره الإمام المؤرخ سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) حين تحدث عن تسليم القدس إلى المحتلين الصليبيين، عبر"صفقة" مشبوهة أبرمها معهم سلطان مسلم في كواليس مظلمة، تشترك في هاجس واحد عند كل بائع للأوطان: الولع بديمومة السلطة، والتمتع بثمراتها!
والصفقات السياسية المشبوهة وجه من وجوه هذا التاريخ المتلون، وهي غالبا ما تأتي خروجاً على ما أتاحته تعاليم الإسلام للحاكم العادل من خيارات واقعية ومرنة للتصرف، عبر أبواب العلاقات الدولية ومواقف الحرب والصلح والهدنة.
الصفقات السياسية المشبوهة لا تظهر إلا عندما تنعدم الثقة، سواء بين الحاكم وشعبه، أو بين الأنظمة السياسية المتجاورة. وانعدام الثقة حين يسود يؤدي إلى بحث عن أي مصدر بديل يوفر الضمان اللازم لاستمرار السلطة السياسية، التي تتحول إلى سلطة تابعة للقوى الأجنبية، فتراها مفرطة اللين مع خصومها شديدة الاستقواء بالأعداء على شعوبها.
فمثلا وصل أثر الصفقات السياسية المشبوهة في الأندلس إلى مستوى خطير قاد أصحابه للتحول من الإسلام إلى دين الحلفاء الجدد من أعداء الأمس، فجعلهم ذلك محلا لثقتهم أكثر مما دفع بتلك القوى الأجنبية إلى التدخل بجدية لحمايتهم موقتاً، وبذلك النهج الانتهازي ضاعت البلاد بأسرها!
ولعل أشهر تلك الأمثلة ما وقع من بعض أبناء البيت الأيوبي من خلفاء السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي اشتهر باختراق حصون خصومه من الصليبيين وتجنيد الجواسيس والعيون رجالا ونساءً داخل معسكراتهم، فقد أصبح بعض السلاطين من أسرته حليفاً للاعداء ضد إخوانه من الأيوبيين، فسلمهم مفاتيح القدس.
وقد أدى تسليم السلطان الكامل الأيوبي الأرض المقدسية المحررة إلى رد فعل شعبي عارم فكأنما "قامت القيامة"وفق وصف ابن الجوزي.
إننا نحاولة استقراء بعض صفقات بيع الأوطان في تاريخنا؛ لنحكي كيف توغل المحتل، وهل دخل عبر الحدود فقط، أم أيضا عبر جيوب خيانة داخلية، وذلك بعرض تفاصيل تروي الجانب الآخر من قصص الحروب الصليبية وسقوط الأندلس، وكيف أنها لم تكن قصة جيش قد يُهزم، بل حديثَ نزوةِ سلطةٍ وقضايا أوطان بيعت في سبيل وهمِ إنقاذ العروش عبر "صفقات قرون" خاسرة؟
فقد شهدت بلاد الشام ومصر خلال عصر الحروب الصليبية خيانات عدة أدت، أو كادت، إلى سقوط بعض المناطق الإسلامية ذات الأهمية الكبيرة في يد العدو الصليبي.
فالأمير الصليبي بلدوين الأول الذي استطاع احتلال مدينة الرُّها (أورفا التركية اليوم) وإقامة أول إمارة صليبية بها عام 1098ميلادية، توجّه صوب مدينة سُمَيْساط (موقعها اليوم جنوبي تركيا) فاحتلها، وفي ذلك يقول ابن الحموي في كتابه "المختصر في تاريخ الإسلام": "ودخلت سنة تسعين وأربعمئة، وفيها فتحت الفرنج أنطاكية وسُميساط".
لكن بلدوين، قبل أن يشرع في حصارها، أرسل إليه حاكم المدينة السلجوقي الذي يُسمَّى "بولدق" وفق غالب الدليمي يعرض تسليم سُمَيْساط مقابل عشرة آلاف دينار ذهبي (أي نحو مليونيْ دولار أميركي اليوم)، الأمر الذي وافقَ عليه بُلدوين ورآها فرصة لا تعوض.
وهكذا سقطت سُميساط بسبب خيانة أميرها الذي باعها بثمن بخس؛ وفقا لرواية أوردها المؤرخ المعاصر للحروب الصليبية وليم الصوري في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية".
وفي العام نفسه؛ سقطت أنطاكية، وهي المدينة الشامية الساحلية الكبرى آنذاك، في أيدي الصليبيين بخيانة أيضاً؛ فقد حاصرها الصليبيون في حملتهم الأولى حين كان يحكمها الأمير السلجوقي ياغي سيان باسم السلطان مَلِكْشاه.
وللتضييق على أنطاكية أقام الصليبيون بالقرب منها قلعة على تل قريب لإحكام الحصار الذي استمر تسعة أشهر، وكان ياغي سيان قد عهد إلى قائد أرمني (كان أسلم أخيرًا) إدارة الإمارة/المدينة وحراسة أبراجها، لكن هذا الأرمني خان المسلمين، فسلمها إلى الأعداء باتفاقية تطبيع مقابل رشوة وحماية!
وفي ذلك يقول المؤرخ عز الدين بن الأثي في "الكامل": "فلما طال مُقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفَظين للأبراج، وهو زرّاردٌ (صانع دروع) يُعرف بـ"رُوزبة"، وبذلوا له مالا وإقطاعًا، وكان يتولى حفظ برجٍ يلي الوادي، فلما تقرّر الأمر بينهم وبين هذا الملعون، جاؤوا إلى الشُّبّاك ففتحوه، ودخلوا منه"؛ وسقطت المدينة بسبب هذه الخيانة لتصدق عليها بذلك مقولة إن "القلاع والحصون لا تسقط إلا من الداخل"!
وكادت مصر أن تسقط في أيدي الصليبيين بسبب طمع وخيانة ولاتها؛ فقد دخلت،بعد وفاة السلطان الفاطمي المستنصر بالله، عصراً جديداً سُمي بـ"عصر سيطرة الوزراء"، اذ تصارع الأقوياء وكبار القادة وبعض الولاة على الحكم والسُّلطة في ظل سلاطين فاطميين ضعاف.
وكان أشهر هذه الصراعات ما وقع -في رمضان سنة 1163ميلادية بين القائد العسكري ضرغام بن عامر اللخمي والوزير شاور بن مجير السعدي؛ إذ استطاع ضرغام انتزاع منصب الوزارة.
فما كان من شاور إلا أن انطلق صوب دمشق ليطلب العون من السلطان الزنكي نور الدين محمود الذي أكرمه وعزم على مساعدته مقابل أن "يعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثُلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون معه من أمراء الشام مَن يقيم معه في مصر، ويتصرف هو بأوامر نور الدين واختياره"؛ كما كتب المقريزي، لكن شاور انقلب على ذلك الاتفاق، وأمعن في الخيانة حين تحالف مع الصليبيين، فطمعوا في الاستيلاء على مصر.
وطبقا للمقريزي"تمكّن الفرنجُ من ديار مصر، وحكموا فيها حُكماً جائراً، وركَبوا المسلمين بالأذى العظيم، وقد تيقنوا أنه لا حامي للبلاد، وتبيّن لهم ضعف الدولة، وانكشفت لهم عوراتُ الناسِ".
ولولا أن السلطان نور الدين أرسل القائديْن أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي لِسَحْق هذا التحالف، والقضاء على شاور والاحتلال؛ والا كان احتل الصليبيون مصر كما احتلوا فلسطين وسواحل الشام.
بيد أن ما يثير الدهشة والتعجب في حوادث خيانة الحكام في ذلك التاريخ هو أن تأتي من الأبناء بعد ميراث الأجداد المشرّف في ساحات الوغى، وتكون ثمرة هذه الخيانة تسليم مدينة مقدسة بحجم القدس التي كانت قِبلة المسلمين الأولى.
بعد أن استعادها السلطان صلاح الدين؛ عاد بعض أقاربه فسلموها مجددا إلى المحتلين الصليبيين، ليكون فعلهم ذاك "سمةَ العارِ في حياةِ الملوكِ"؛ وقد تكررت خيانة تسليم القدس مرتين؛ كانت أولاهما سنة 1229 ميلادية خلال الحملة الصليبية السادسة، حين سلمها سلطان مصر الأيوبي الكامل محمد بن العادل إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني، وذلك ليترك له فريدريك السيطرة على مدن مثل نابلس والخليل.
وقد تحدث المؤرخ ابن الأثير عن أثر تلك "الصفقة" في نفوس المسلمين حينها فقال: "وتسلّم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين".
وظلت القدس في أيدي الصليبيين أكثر من عشر سنوات حتى استردها منهم السلطان الناصر داود ابن المعظم، لكنه نكايةً بابن عمه سلطان مصر الصالح أيوب، عاد فسلّمها للصليبيين مرة أخرى.
وقد فعل الناصر داود ذلك خيانة وسعيا وراء مصلحته الشخصية كي يظل الصليبيون على تحالف معه ضد الصالح أيوب؛ متناسيا أنه كلّف سبط ابن الجوزي الواعظ بإلقاء خطبة عصماء بالجامع الأموي تنديدا بما فعله عمه "الكامل" من تسليم للقدس!
ثم بقيت القدس أسيرة للصليبيين حتى عام 1244ميلادية؛ إذ استطاع السلطان الصالح أيوب أن يسحق الصليبيين والأيوبيين الشوام المتحالفين معهم في "معركة غزة" حيث ساروا "تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصُّلبان"، وفق وصف سبط ابن الجوزي.
... وللحديث بقية
إمام وخطيب
[email protected]