الخميس 08 مايو 2025
28°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
 محمد الفوزان
كل الآراء

صفقات الخيانة الخاسرة في تاريخ المسلمين (2)

Time
الأربعاء 13 نوفمبر 2024
View
170
محمد الفوزان
قصص إسلامية

تعرضت الدولة العباسية لسلسلة طويلة من الخيانات عبر تاريخها الذي امتد أكثر من خمسة قرون، بيد أن أشهر هؤلاء الذين تسببوا في القضاء عليها، ومحو آثارها، كان الوزير مؤيد الدين بن العلقمي (ت 656هـ/1258م)، الذي عمل على محاور عدة لإسقاط العباسيين، ولو بالتعاون مع المحتلين التتار.

ويُفصّل ابن الساعي (ت 674هـ/1275م)، وهو مؤرخ بغدادي معاصر لأحداث سقوط مدينته، بعض أوجه خيانة ابن العلقمي بقوله في"مختصر أخبار الخلفاء": "وكاتبَ التتار/ المغول، وأطمعهم في البلاد، فيُقال إن القائد المغولي هولاكو (ت 663هـ/1265م) لما وصلت إليه مكاتبة الوزير تنكَّر ودخل بغداد في زي تاجر، واجتمع بالوزير وأكابر الدولة، وقرروا القواعد معهم، ورجع إلى بلاده فتجهّزا، وسار إلى بغداد في جموع عظيمة من المغول، ونزل جيشه على الجانب الشرقي في سنة 656 هجرية(1258م)، وخرج إليهم الوزير فاستوثقهم على أهلِه ونفسه، وقال للخليفة المستعصم إن هذا قد جاء ليزوج ابنته بابنك.

ولم يبرح به حتى أخرجَه إليه، فأنزلوه في خيمة، وجعل الوزير يُخرج إليهم أكابرَ بغداد طائفة بعد طائفةٍ، حتى كمُلوا عند التتار، فوضعوا فيهم السيف وقتلوا الخليفة".

وقد ظن ابن العلقمي أنه سيُمتّع بخيانته فيرتقي فوق الأعناق بعدما بلغ مآربه، بيد أن التاريخ يخبرنا أن ما حدث كان العكس؛ فقد احتقره المغول حتى "كان في الدِّيوان جالساً فدخل بعض التتار ممَّن لا وجاهة له راكباً فرسه إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير، وخاطبَه بما أراد، وبالَ الفرسُ على البِساط، وأصاب الرشاشُ ثيابَ الوزير وهو صابرٌ لهذا الهوان"؛ طبقا لرواية ابن أيبك الصفديّ (ت 764هـ/1363م) في "الوافي بالوفيات".

ولئن سقطت بغداد بالخيانة والمكر؛ فإن دمشق سقطت هي الأخرى في العام التالي بالوسيلة نفسها، وكان حاكم دمشق، آنذاك، الملك الأيوبي الناصر الثاني يوسف (ت 659هـ/1261م) حفيد الناصر الأول صلاح الدين، غير أن هذا الحفيد لم يكن مثل جدّه فابن أبي أُصَيبعة (ت 668هـ/1269م) يصفه -في كتابه "عيون الأنباء"أنه كان "جباناً متوقفاً عن الحرب".

ولما جاءته رسالة هولاكو التي يقول فيها وفق رواية ابن العبري (ت 685هـ/1286م) في "تاريخ مختصر الدول" "يعلمُ الملكُ الناصر أننا نزلنا بغداد في سنة 656هجرية (1258م)، وفتحناها بسيف الله تعالى، وأحضرنا مالكها؛ فليكُن لكم فيما مضى مُعتبَر، وبما ذكرناه وقُلناه مُزدجَر".

ومع جبن الملك الناصر؛ فقد كان وزيره الطبيب زين الدين الحافظي (ت 662هـ/1264م) وحاجبه الأمير نجم الدين من الرجال الضعفاء الجبناء الأقرب إلى مواقف الخيانة منهم إلى المواجهة والصمود في سبيل حماية الأوطان، وقد حرضا الملك الناصر على التسليم.

وفي تصوير دوافع ذلك الموقف يقول ابن أبي أصيبعة: "جاءت رسل التتار من الشرق إلى الملك الناصر، وهم في طلب البلاد والتشرط عليه بما يحمله إليهم من الأموال وغيرها؛ فبعث زين الدين الحافظي رسولاً إلى خاقان هولاكو، ملك التتار، وسائر ملوكهم، فأحسنوا إليه الإحسان الكثير، واستمالوه حتى صار من جهتهم، وأطمع التتار في البلاد، وصار يهوّل على الملك الناصر أمورهم، ويعظّم شأنهم، ويفخّم مملكتهم، ويصف كثرة عساكرهم، ويصغّر شأن الملك الناصر، ومَن عنده من العساكر".

هذا التخذيل الذي جرى قُبيل دخول المغول إلى الشام. وحين اقترب المغول من دمشق؛ هرب ملكها الناصر إلى جهة مصر، ثم خاف من المماليك واتجه إلى الأردن، ثم خانه بعضُ أعوانه فدلّ أحدُهم هولاكو على مكانه.

يقول قطب الدين اليونيني (ت 726هـ/1326م) في تاريخه "ذيل مرآة الزمان" متحدثا عن مصير الناصر الثاني إثر خيانته لأمته: "فكبَسه التتار بها، وتفرّقَ عنه معظم أصحابه، ثم استأمنَ له بعض أصحابه وسَار إليهم، فكان معهم في ذُلٍّ وهوان"، ثم أخذوه معهم بعد هزيمتهم في عين جالوت سنة 658هـ/1260م، إلى مدينة تبريز (تقع اليوم شمال غربي إيران)؛ وظل معهم حتى قتله هولاكو عام 659هـ/1261م!

أما الوزير زين الدين الحافظي، ذو التاريخ الحافل بالخيانة والغدر، فقد أوضح لنا ابن أبي أصيبعة الثمن الذي قبضه من التتار، وما صار له من بغض في قلوب المسلمين جراء فعلته تلك.

يقول ابن أبي أصيبعة: "ملكت التتار دمشق بالأمان، وجعلوا فيها نائباً من جهتهم، وصار زين الدين أيضاً بها، وأمّروه وبقي معه جماعة أجناد حتى كانوا يدعونه الملك زين الدين.

ولما وصل الملك المظفر قطز (ت 658هـ/1260م) صاحب مصر ومعه عساكر الإسلام، وكُسر التتار في وادي كنعان الكسرة العظيمة المشهورة بـ"وقعة عين جالوت"، وقُتل من التتار الخلق العظيم الذي لا يحصى؛ انهزم نائب التتار ومَن معه من دمشق، وراح زين الدين الحافظي معهم خوفاً على نفسه من المسلمين"!

لكن هذا الوزير الخائن لاقى، بعد ذلك، مصير الملك الناصر حين اتهمه هولاكو بأنه يراسل المماليك في مصر، ولما أراد قتله قال له: "قد ثبت عندي نحسك وتلاعبك بالدول، فإنك خدمتَ صاحب بعلبك طبيباً فخُنته، واتفقتَ مع غلمانه على قتله حتى قُتل؛ ثم انتقلتَ إلى خدمة الملك الحافظ (صاحب قلعة جعبر نور الدين أرسلان شاه بن العادل المتوفى 639هـ/1241م) الذي عُرِفتَ به، فباطنتَ عليه الملك الناصر (الثاني) صاحب الشام حتى أخرجته من قلعة جعبر، ثم صِرتَ إلى خدمة الملك الناصر ففعل معك ما لم تسْمُ أطماعُك إليه مِن كلّ خيرٍ، فخُنتَه معي…؛ ثم أمرَ به فقُتل وجميعُ أهله"!

ويقدّم الصفديّ في"الوافي بالوفيات" تفاصيل تبين مصير الحافظي؛ فيقول: "قتله وقتل أولاده وأقاربه وكانوا نحوا من خمسين".

إمام وخطيب

آخر الأخبار