قَصص إسلامية
من أعظم العِبَر التي تقدمها الأحداث التاريخية أن تاريخ المسلمين يجب ألا يُختزل في صورة مثالية براقة، بل إننا نحتاج أحيانا كثيرة إلى دراسة تاريخ الأمجاد والانتصارات لصالح مراجعة تاريخ الهزائم والخيانات؛ فلحظات الانهيار والانكسار قد تكون أشد كشفا للحقيقة، من لحظة الصعود والانتصار.
فقد تعرضت ديار الإسلام في الأندلس الى سلسلة من الخيانات، حتى لكأن تاريخها سيل لا ينقطع منها، فشهدت قصور الحكم فيها مجموعة من القادة والأمراء كانوا على درجة عالية من انعدام الشرف، والتباغض إلى درجة التعاون مع العدو ضد بعضهم بعضاً، في سبيل مطامع شخصية قصيرة الأمد، كانت عاقبتها وبالاً على دولة الإسلام، وحضارته في تلك الأصقاع.
فحين ارتقى الأمير الأموي الحَكَم بن هشام (ت 206هـ/821م) كرسي الحكم في الدولة الأموية بالأندلس؛ لم يرضَ عمّاه سليمان وعبد الله بصعود هذا الأمير الشاب على حسابهما، خصوصا أن أباه هشاماً سبق أن آثره والدهما عبد الرحمن الداخل بتولي الحكم من بعده، ولذلك قرراً الخيانة العملية بالتحالف مع الثائرين في ولاية الثغر الأعلى (سرقسطة) شمالي الأندلس، ثم بالتحالف مع مملكة الفرنجة وقائدها شارلمان.
قال المؤرخ محمد عبد الله عنان: "سار عبد الله (بن عبد الرحمن الداخل) إلى الثغر الأعلى يؤلّب البلاد، ويحشد الأنصار لمقاتلة الحكَم، ثم عبر جبال البرنيه إلى بلاد الفرنج (فرنسا)، وسعى إلى مقابلة شارلمان (كارل الأكبر) في مدينة إيكسلا شابيل، وهي حاليا مدينة آخن الألمانية، حيث كان يعقدُ بلاطَه يومئذٍ، والتمسَ إليه العونَ والمؤازرة، فأكرمَ ملك الفرنج وفادَته، واستجاب دعوتِه، وألفى الفُرصة سانحة للتدخّل في شؤون الأندلس، وتحقيق مطامعه القديمة.
وسيّر شارلمان جيشاً مع ولده لويس أمير أكوتين، فعبَر البرنيه واستولى على مدينة جيرونة، ثم توغل في ولاية الثغر الأعلى بممالأة بعض الزعماء الخوارج، من ثوار تلك المناطق.
ورغم فشل ثورات وتحالف الأخوينِ الخائنينِ سليمان وعبد الله مع الملك الفرنجي شارلمان، حيث قُتل الأول على أيدي جنود الحكَم الأموي سنة 182هجرية (798ميلادية)، وفرَّ الثاني إلى مدينة بلنسية طالبا الأمان من ابن أخيه الأمير؛ فإن شارلمان أدرك نقاط الضعف في ولايات الثغر الأندلسي الأعلى، كما استغل الخلاف الأموي الداخلي بين الأمير الحكم وعمّيه، فكانت المصيبة بسقوط مدينة كبيرة مثل برشلونة.
وسقوط هذه المدينة فتح ثغرة للفرنجة النصارى لإنشاء ولاية تسمى "الثغر الإسباني" أو "الثغر القوطي"، فأضحت منذ ذلك الحين شوكة في خاصرة المسلمين في الأندلس، وقد تطورت مع الزمن حتى أصبحت "كونتينة قطالونيا" التي اتّحدت لاحقا مع مملكة أرغون، وأنهت الجانب الشرقي من الوجود الإسلامي في الأندلس فيما بعدُ.
فكانت الخيانة التي ظهرت في نهايات القرن الثاني الهجري سببا في سقوط وانهيار الأندلس عبر قرون عدة!
إمام وخطيب
[email protected]