قصص إسلامية
أصبحت دول العالم المتقدّم تعيش نهضة علميّة غير مسبوقة، وصارت الدراسات والتخصصات العلميّة متعددة ومتنوّعة، وباتت الجامعات، والمعاهد العلميّة، تتبارى في تقديم مختلف البرامج، ومراكز البحوث والدراسات تتسابق في نشر مشاريع متقدّمة، والكثير منها متاح لمن أراد القراءة والاطّلاع.
لكنّنا في المقابل، وأمام كلّ هذا الوهج العلميّ، نرى حالةً من الجهل تخيّم فوق ربوع بلداننا، وتضرب أطنابها بين ظهرانينا.
هذا التباين بين المشهدين يدعو إلى التوقف والتأمل قليلاً، ويدفع إلى جولة من البحث والمطالعة، لنكتشف أنّ الدول التي امتلكت العلم والمعرفة بلغت حدّ القدرة على إدارة الفهم الإنساني والتّحكم به عن بعد، وأنّ العقل البشري إنّما هو صندوق للعلم والمعرفة، فإذا ما أدخلت معلومات وحذفت أخرى، واستعملت القص واللزق والأفلام والمفبركة، واستمرّت هذه العمليّة بصورة مبرمجة لفترات مدروسة، فإنّ هذه العقول ستكون تحت السيطرة، مهما كانت هذه العقول متعلمة أو جاهلة.
إنه تخصّص علميّ نادر يجري توظيفه لصناعة الجهل ونشره بطرق علميّة عالية الدقّة. إنّه "علم الجهل" (Agnotology). وهذه الكلمة مشتقّة من (agnosis)، وهي كلمة يونانيّة تعني الجهل، وكلمة (ontology) وهي ما يعرف بعلم الوجود.
أخطر ما على الأمم هو الفقر والجهل، وتجهيل الشعوب بإغراقهم في كم كبير من الخرافات، والظلم والفساد المالي والاجتماعي، وغياب العدالة في توزيع الثروة وحقوق الناس.
ثورة الزنج من أعنف الثورات التي شهدتها الخلافة العباسية، للأسباب ذاتها التي كانت سائدة بين عامي 255 و270 هجرية، فما قصتها، ومن قائدها، وماذا فعل الزنج العبيد في البصرة؟
في سنة 255 هجرية، ظهر رجل في البصرة زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكن صادقاً، بل كان أجيراً، واسمه علي بن محمد بن عبدالرحيم، وأصله من قرية من قرى منطقة الريّ (طهران حالياً).
أخذ هذا الرجل في دعوة العبيد، الذين كانوا يكسحون السباخ بالبصرة، وكلّمهم عن الحرية، والعدل، والمساواة، والفساد، وضرورة توزيع الثروة بين الناس بالعدل والقسط، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عناوين براقة جاذبة، فالتفت إليه جماعة من الزنج والعبيد، والمظلومين، وجهلة الناس، واجتاز بهم نهر دجلة، ولم يكن عددهم كبيراً، ففكّر في كيفية توسيع قاعدته.
انتقل هذا الرجل إلى بغداد ليدعو الناس، خصوصاً الفقراء الجهلة والمظلومين، إلى مبادئه البراقة، وقال لأصحابه: "إنني أحفظ سوراً من القرآن في ساعة واحدة جرى بها لساني من غير أن يُحفّظها لي أحد".
وزعم لهم أنه يعلم ما في ضمائرهم، وأن الله يُطلعه على ذلك، فراج أمره في بغداد، وكثر جمعُه، فعاد بهم إلى البصرة وأخذ في الاصطدام مع والي المدينة، وانتصر عليه مرات عدة، وهُزم هو مرات عدة، لكنه كان قويّ العزيمة ثابت الرأي، وحتى يستميل الناس لم يكن يتعرض لأموالهم، ولا يؤذي أحداً، وإنما يأخذ مال السلطان، فقَوِي شأنه، واستفحل أمره.
شعر الخليفة العباسي المعتمد بالله بخطورة هذا الرجل، وتنامي قوته، فأرسل إليه جيوشاً عدة لمحاربته، وانتصر عليه، ثم انتقل هذا الرجل بثورته إلى فارس لدعوة الناس هناك، مستغلاً جهل أهل البلاد، واستعداد الناس لقبول مثل هذه الأفكار، ومكث فيها فترة حتى جاءته الأخبار أنّ أهل البصرة قد اتسعت أملاكهم، وكثرت أموالهم، فقرّر الهجوم عليها.
يقول بعض رواة التاريخ: إن هذا الدعي كان يتعامل بالسحر والشعوذة، وكان له شيطان من الجن يأتيه بالأخبار، ويخاطبه بما وقع، فقام هذا القاتل في أتباعه، وقال لهم محرّضاً على الهجوم على البصرة: "دعوت الله على أهل البصرة فخوطبت إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت، فأوّلت الرغيف القمر، وانكساره انكسافه، ورفعت البصرة لي بين السماء والأرض، ورأيت أهلها يُقتلون، ورأيت الملائكة تقاتل معي وتثبت جيوشي".
وروت في الأخبار، انكساف الشمس ليلة 14 شوال سنة 257 هجرية، فحميت نفوس أتباعه الجهلة، وظنوا أنهم على الحق.
إن شيطان أهل الباطل في عصرنا هو الإعلام الفاسد بلا ضمير، المزيف، الذي يقلب كل حقيقة باطلاً، وكل باطل حقيقة، كأنه دجال هذا العصر.
ما يفعله الإعلام الفاسد هو إقناع الناس بأنّ رجلاً أخرس قال لرجل أطرش: إن رجلاً أعمى شاهد رجلاً مشلولاً يلحق برجل مبتور اليدين ليمنعه من شدّ شعر رجل أصلع!
هذا ما يفعله الإعلام الفاسد عندما يمارس صناعة الجهل بين الناس، وما داموا لا يقرأون ولا يعتبرون، ولا يملكون الوعي، فيظل غباؤهم وجهلهم أقوى سلاح في خدمة من يريد أن ينشر الفساد بيننا.
هجم هذا الدعي، قائد الزنج ومن تبعه من الجُهّال، على مدينة البصرة يوم 14 شوال سنة 257 هجرية، فدمروا المدينة تدميراً كاملاً، وأحرقوا جامعها، وقتل من فيها من الرجال، والعلماء، والأعيان، وهرب والي المدينة ومن معه، وتركوا أهلها لمصيرهم المحتوم.
ونادى أحد أمراء هذا الدعيّ في أهل المدينة: "من أراد الأمان فليحضر"، فاجتمع عنده خلق كثير، فغدر بهم المجرم، وأمر بقتلهم جميعاً، وكان الزنج يحيطون بجماعة من أهل البصرة، ثم يقول بعضهم بعضا: "كيلوا"، وهي الإشارة بينهم إلى القتل، فيحملون عليهم بالسيوف، فلا يُسمع إلا قول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، من أولئك المقتولين، وصراخ وضحك الزنج عند ضربهم للناس بالسيوف!
وورد في المصادر "ظل أتباع الدعيّ يفعلون ذلك بالبصرة أياماً عدة، وحرقوا الزروع والكلأ، من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت كل شيء من الإنسان، والحيوان، والزروع، والبيوت، وقُتل في هذه الواقعة عشرات آلاف من المسلمين، وكانت هذه الواقعة إيذاناً باندلاع الثورة الشاملة للزنج، وظهور قوتهم بشكل علنيّ وقويّ ضد الخلافة العباسية، واستمرت هذه الثورة نحو 15 سنة.
أدت هذه الفتنة إلى نشر الأمراض والأوبئة بسبب ما عاناه الناس من فقر وجوع، حتى أكلوا الجيف، وأدت إلى أن يأسر الزنوج آلاف الحرائر.
وورد في بعض المراجع التاريخية أنه قتل من المسلمين عدد كبير، أقل تقدير له هو مليون ونصف المليون مسلم، خلال 15 سنة، كما اعتبرت هذه الحركة الفاسدة من الأسباب التي ساعدت على تفكك الدولة الإسلامية خلال العصر العباسي الثاني.
في النهاية، فشلت ثورة الزنج في أن تكون ثورة اجتماعية، بسبب الجرائم الوحشية التي ارتكبوها، من اغتصاب واسترقاق النساء الكريمات، وسلب ونهب، وقتل مئات الآلاف، والاعتداء على الأطفال والشيوخ، وتدمير المدن، والنَّيل من صرح الحضارة الإنسانية، وانتهت إلى مزبلة التاريخ، غير مأسوف عليها، بعد أن عانت الأمة الإسلامية الويلات من مغامراتها. إنه لا يصح إلّا الصحيح، والعاقبة للمتقين.
إمام وخطيب
[email protected]