يمكنُ للوجعِ أن يبرق من خلال الدّموع، ويمكن للجَمال أن يبرز من صرخة ثائر، ويمكن لك أن تُؤخَذَ بِدهشة. هذه هي مجالس الصَّمت، تقول ما يحلو لها، وتقسو على شاطئ النّضوج متى رَسَت على صخوره.
الصَّمت صفاءٌ بغيرِ جسد، لذلك هو أروع ممثّل للذّات، عندما لا تكذبُ الذاتُ على ذاتها. مُتَّسعُه لا يحوطه بيان، يسمو بروحه لتتجاوب معه الأرواحُ بروحها، ويفصل في قَوله ما يجب تحديدُه لفصل القول.
ولأنّ خدمتَه متَّصفة بالنُّصح، فهو الصّافي المتحمّلُ ثِقلَ الأيام ليعيش أبداً نسيجَ وَحدِه. إنه يغرف من فوق، موصولاً بأشعّة الجِدّة، فما أقربَه الى الخلود القَلِق.
الصَّمت ينبضُ بأحرفٍ مصبوغةِ الألوان، كصفاء الإبداع، تَرى به ما لا يمكن أن تراه في الكلام. إنّه المتفرّدُ في قَول ما لم يقله سواه، يعطي ما لديه كما لديه، يخصّ كلَّ شيء بنشيد، وكأنه يعيش عرسه.
لذلك، لا يمكن أن يُتعبَك الصّمتُ وأنتَ على قَيدِه، فهو غفلةٌ نسمتُها طريّة، بريئةٌ كعاشقٍ ما غَفا إلاّ على حفيفِ الهوى، فبئسَ الضّجيج.
إنّ إغراءات الصَّمت تؤدي دوراً أساسياً في مقاربةِ الذات، فهو مذهبٌ معقّد، لا لأنه مُقَعَّد، بل لأنه نَزعة، وهذه لها مدلول سلوكيّ يتوجّه صوب هدفٍ محدَّد.
ولمّا كانت الإغراءات تتلاحق بين مصدرٍ وموضوع، صارت، إذًا، راحةً لا تنام ليلةً واحدة خارج دائرة الصَّمت، وذلك ليطلّ عليها الصّباح كلّ مرةٍ وهي عندَه.
الصَّمت حالةٌ نرسيسية سريعةُ الحساب وقاسيةُ، لكنّه مع ذلك صديق الجميع. إنه نعمةٌ تجعل فائدة الخارج تنكفئ على"الأنا"، في خطفةٍ ساحرة للبعيد حيث زَفَراتُ الصّدى يُطربها تَرجيعُ إحساسٍ ذائب.
ويسود في الصمت ارتياح، فعالَمُه تَجَلٍّ لا غفران فيه لأنه بلا خطيئة، لذلك استودعَه الارتياح روحه.
في الصمت اهتداءٌ الى نيرانٍ ولا أصفى، شبعَت من دون احتراق، وهو في حقيقته ذَوقٌ روحيّ يصرفنا عمّا تراه بصائرنا، لنستغرق في عوالم غريبة هي أبعد من أن تنالها يدٌ تُصلحُ فيها أو تزيد.
من هنا، فهو على زورقٍ من نور، يطفو على أقداح الأبد، وليس عهدًا مُشَظّى ببغايا الكلام، إنه قَبَس الهداية التي تقودُك الى أن تعرفَ ربَّك وكأنّك تراه.
الصَّمتُ هو أَفضلُ دُعاءٍ لا يُسمَع، ويخطئ مَن يحسب أنّه يَطمس المحاسن إذ ليس لِلَفظه حلّة، وكأنه غريبٌ يَحتاج الى دقّة ملاحظة لِجلاءِ أمره.
والحالُ، أنّ الصَّمت هو ما ينتقل فيه الذِّهن من غير احتياجٍ الى شدَّةِ نظر لظهور وجهه: فهو أَمردُ يتأمّله الضمير، عيناه مِدهَن العاج... كأنه في دُور أَكابر الملوك، فهل أوضحُ منه دلالةً لدهشةِ الذَّوق؟
الصمت هو جيب المعرفة، لذلك آياتُه بيّناتٌ لا يرضى أن تظلَّ رهينةَ السّتارة، خامدةً فتَبلى في غير نَفع. ومن حسن شِيَمه، أنّه يُنفِقُ نتائج خواطره من دون الحاجة الى الاختلاس، حجّتُه أنّ اللُّؤلؤ لا يُصَفَّق له إذا ظلّ سجينَ الأصداف.
ربَّما كان في صَمتِ الصَّمت قَوالبُ يمجُّها العقل، ولا يقبلُها المنطق لأنها تجمع في مذاكراتها النَّقائض، مثل رَوض العذاب الأليم، وطِيب غَدرات الزّمان، وطمأنينة السَّراب الخادِع.
لكنّ هذه الخواطر ليست بِدَعاً غريبة تتوثَّب من فيض الإدهاش الذي لم يمسَسْه قلم، وكأنّك معها تقف أمام مرآةٍ مُقَعَّرة تَجمع بين النَّقيض والنَّقيض، أو "تَضربُ" السَّالِبَ بسالِبه لِيُنتَجَ الإيجابُ العجيب، فما أروعَ ما تقدّمه الرياضيات، وبصَمت!
الصَّمت علمٌ، والذي ينفي ذلك، فهو في خطأ مُبين. ولأنّ الصّمت لا يعتمد على رعاية، فمهمة الباحث في هذا العِلم عسيرةٌ، وقد لا يكفي أن يدخل في واحدةٍ من دوائره حتى يستكفي مُلِمّاً بكلّيته، لذلك، لم يجد هذا العلم مَنْ يُعنى بتدوين أصوله، والذين حاولوا غلبَت الصَّنعةُ على إنشائهم، فلم يُمَهَّد السَّبيل الى التعمّق بدقائقه، فذلك يتطلّب كثيراً من الجهود.
الصمت أَخَفُّ على القلوب من حواشي الكلام، فهو يباريها في مَكنون أسراره، بحيث ترى في رسالته ما تراه في أشهى الأعمال الفنية.
واستناداً، يمكن أن ترى في بعض الكلام أَثَراً يَنقصه الفنّ، فيبدو لا حسّ فيه ولا روح، أو تنتابه أخطاء يمكن استدراكُها لو "طُبِعَت" مرةً ثانية. لكنّ ذلك لا يَنضَحُ عن الصَّمت الذي تعوَّد أن يُبدع بلا كلفة ولا عناء، ومن أجله يُشتاق الدّخول الى أسراره.
وبعد، للصَّمت عَيبٌ واحد: عيبُه أنه لا يصمت.
استاذ جامعي لبناني، كاتب