تُعدّ الولايات المتحدة من القوى العالمية، التي شهدت تحولات ستراتيجية عميقة على مر العقود.
في هذه المقالة، نناقش كيف انتقل العقل الأميركي من تبني رؤى بعيدة المدى مثل "حرب النجوم" في عهد الرئيس ريغان، إلى تبني سياسات حمائية قصيرة المدى تحت شعار "أميركا أولا" في عهد الرئيس ترامب.
في هذه المقارنة، نحاول استكشاف تأثير هذه التحولات على مفهوم الاستدامة الأميركية على الساحة الدولية.
في زمن مضى، وتحديدا في عقد الثمانينات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة تكتب فصلا جديدًا في سردية الهيمنة العالمية، حين أطلق الرئيس رونالد ريغان مبادرته الستراتيجية الطموحة التي عُرفت بـ"حرب النجوم".
لم تكن المبادرة مجرّد درع دفاعي فضائي، بل كانت تعبيرا صريحا عن عقلية استشرافية، تتطلّع إلى تأمين التفوق الأميركي لعقود عدة، عبر تسخير التكنولوجيا، والفضاء، وعلوم المستقبل لصالح منظومة أمن قومي مستدام، وهو ما انتهت إليه لاحقاً إبان هيمنة القطبية الواحدة.
لقد كانت تلك اللحظة، بما حملته من خيال تقني، وتخطيط ستراتيجي بعيد المدى، علامة على وعي إمبراطوري يرى في الاستدامة مفتاحا للقوة: استدامة التفوق، استدامة الردع، واستدامة المشروع الأميركي عالميا.
ولم تكن الاستدامة، آنذاك، شعارا بيئيا أو اقتصاديا، بل كانت روحا تملي على السياسة أن تُخطّط لعقود لا لسنة مالية واحدة.
وحين يُقارن هذا الأفق الرحب بالتحوّلات التي شهدتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، يبدو التراجع حادا، بل فادحا.
فمن حربٍ تُخاض في الفضاء إلى أخرى تُخاض في الجمارك، انتقلت أميركا من خطاب الكونية إلى خطاب الحمائية، ومن سباق الهيمنة إلى سباق فرض الرسوم، ومن الحلم الكبير إلى المعادلات الصفرية!
إن "حرب الرسوم الجمركية" التي تبنّاها الرئيس ترامب ليست فقط سلاحا اقتصاديا، بل تكشف عن تآكل فلسفة الاستدامة الستراتيجية نفسها. فلم يعد الهدف صيانة موقع أميركا لعقود مقبلة، بل كسب نقاط سريعة في ميزان التجارة، لقد تحوّلت الدولة من مهندس للنظام العالمي إلى تاجر قلق يُقلب دفاتر العجز والفائض!
إن هذا التحول من مشروع إمبراطوري طويل المدى إلى ردود فعل قصيرة النظر، يُضعف من استدامة الدور الأميركي، ويربك ثقة الحلفاء، ويفتح المجال أمام قوى جديدة تمتلك ستراتيجيات أكثر رسوخا واستدامة، في طريق التحول من أحادية القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب، وإن بدت أبطأ حركة.
بين "حرب النجوم" التي سعت لاستدامة التفوق، و"حرب الرسوم" التي تُدار بمنطق الربح الفوري، يمكن قراءة الفارق بين أمة تُفكر كقوة عظمى، وأمة تُفكر كقوة قلقة. وبين التفكير للمستقبل، والتفكير في الانتخابات المقبلة، تنهار جسور الاستدامة.
وهنا يصبح سؤال الاستدامة أكثر من مجرد شعار تنموي، ليغدو مقياسا لرشد الدولة، ولبوصلة تماسكها في عالم مضطرب.
خبير استدامة - كاتب كويتي
[email protected]