النّرجسيّة، أو النرسيسيّة، هي تسمية لأعراض شخصية تتّصف بالمبالغة في اعتبار الذّات فائقة الأهميّة، ما يؤدّي الى شعور صاحبها بالعظمة، والقوة، والنجاح المنقطع النّظير، والاعتقاد بالتميّز والتفرّد عن الآخرين.
وهذه الأعراض تقود الى أوهام التفوّق، وعشق الذّات، والمثاليّة المطلقة، والفوقيّة، ما يذكّر بما وُصِف به المتنبّي، الذي ملأ الدّنيا وشغل النّاس، بأنّه ينظر الى أخمص قدمَيه فيرى الزّمان تحتهما.
هذه العوارض التي اعتبرها علماء النّفس حالة مَرَضية، تفاقمَ تأثيرها في بعض الناس المُتَوَلّينَ المناصِب، أو الأثرياء الجُدُد، على غِرار ضفدع لافونتين، الذي أراد أن يصبح بحجم الثّور، فانتفخ حتى انفجر.
وأسوأ نتائج النرجسيّة اضمحلال التّوازن العقلي، أي تَبَخّر المنطق الذي يعصم الذّهن عن الخطأ، فالمنطق البعيد عن النرجسيّين، هو الوسيلة المعياريّة المأمونة التي تستند الى قواعد وأصول، لتهيّئ الى التّفكير السّليم، والاستنتاجات الصّحيحة.
إنّ الشّخص المُصاب بالنّرجسيّة، وهذه حال الكثيرين من المتربِّعين في المناصِب، يسترسل في مَسخ قناعاتٍ له يقيس، على أساسها، ما هو صحيح، وما يحيد عن محجّة الصّواب الذي يحدّده هو بالذّات.
وإنّ هذا التّشويه في رصف القياسات، والذي يأتيه المستسلمون لاستئثار النّرسيسيّة بأدمغتهم، ليس سوى زوغان بعيد عن حقيقة الفكر، كعِلم، إذ يجعلهم يصدّقون ما يقولون، وما يصدر عنهم من سلوك ومواقف.
والأنكى أنهم يحاولون دفع النّاس الى الإقرار بصوابيّة كلامهم الهذيانيّ، ومواقفهم الملتبسة. والواقع أنّ كلّ واحد من هؤلاء الجهابذة، يتحفنا بالقول إنّه الوحيد المُقنِع، والصّادق، والعُصاميّ، والمترفِّع عن الدّونيّات، والمثاليّ في سلوكِه، وذلك بشوفانيّة أين منها ما قاله البُسطامي أحدُ غُلاة الصوفيّة.
واستنادا الى ما يوصي به علماء النّفس، يجدر بنا تذكير المُتشاوِفين، هؤلاء، المهووسين بالنّرجسية، واشتهاء الذّات، أنْ لا قيمة عمليّة لهذا السّلوك، لأنه لا يخضع لمَلَكة التّفكير الموضوعيّ، والمنطقيّ، بل لهلوسات عقيمة تُكابد هزيمةً عقليّة نكراء.
إنّ هذا الوباء الخبيث في إلصاق الصّفات الطّوباويّة على ذاتِ النّرجسي، وتحصينِه عن الزّلل والخطأ، والرّذائل واللّوثات، يمكن، وفق علماء النّفس أنفسهم، أن يطفو على سَطحِ بِركةِ شخصيّة المُصاب، في عمر المراهقة، لكنّه لا يلبث أن يزول مع النّضج، ومع اكتساب الخبرة الحياتيّة، والاغتناء بمزايا العقل، أمّا في بعض المَواقع، فالنرسيسيّة والانبهار بالذّات، لا يزالان، وللأسف، يلوّثان سلوك كثيرين، وقد بلغوا من العمر عَتِيًّا، فأعراض التّشاوف، والأنانيّة، وادّعاء التّمايز، وعبادة الذّات، وسواها مِمّا يُشبهُها، ليست سوى استغراق في الهلوسة التي تشير، بالتحديد، الى عُطل في مركز التّفكير الدّماغي، ومن المُحتمَل، أو من المؤكَّد، ألّا يُشفَوا منه، ويا لَتَعتير مَنْ يعرفُهم.
إنّ الكابوس الذي كان يتحكّم بالناس، ولمّا يزل مستمراً حتى اليوم، وبحدّة، هو إصابة المتقَلِّدين ألقابا، أو الطّامِرين الثروات، بالغرور المفرط، فكلٌّ منهم ينتابه شعور مبالَغ فيه بأهميّته، ويعتبر نفسه مرجعيّة لا تخطئ، ما يدفعه الى عدم تَقبّل أيّ انتقاد، أو ملاحظة، وبالعكس، فهو يرى نفسه جديراً بالإطراء، ويستحقّ التّقدير، والتّكريم، والتّبجيل، حتى لو عَطَس.
أمّا إذا تجرّأ أحدٌ مِمَّن يختلفون معه في الرأي، أو الموقف، وواجهه، فللحال يتقلّب مزاجه، ولا يتجنّب ازدراء منتقده، والانقضاض عليه بعبارات نابية، ومن العيار الثّقيل، ويُلصق به تُهمًا ربّما يكون هذا المُنتقِد منها براء.
أمّا الأدهى، مع نرسيسيّي آخرِ زمن، في بلادِ النّاس، فإسراعهم الى إسداءِ النّصح، وإتحاف الآخرين بإرشادات تنتسب الى النّمط الإيعازي الذي يتقزّز منه أكثر المتلقّين.
والنّاصحون المعصومون عن الشَّطط، الذين يضع كلّ واحد منهم نفسه في موقع المرجَعِ الأَسمى، أو الواعظ الأَفهَم، فإنّهم يعتبرون أنفسهم هابطين من ضِلع أرسطو، أو متَّصِلين بصفحات اللّوح المكتوب، فيوزّعون النّصائح والتّوجيهات، في كلّ اتّجاه، وينتظرون الشّكران من المنتَصِحين المنقوصي اللبّ، والذين عليهم أن يكرّروا، للمُصطَفين الشوفانيّين، ما قالته "المِطرة" للمصطفى، في كتاب "النبيّ" لجبران، وهو يهمّ بمغادرة أورفليس: "كلّ ما نطمع فيه منك، هو الحصول على بعض الحقيقة التي أنتَ حاصلٌ عليها".
وبعد، إذا كان "نرسيس" شخصية أسطوريّة من مفاعيل الميثوس الإغريقي، فالنرسيسيّون المتشاوِفون، في كلِّ مكان، هم واقعيّون، طاووسيّون بامتياز، مُنِيَ الناسُ بهم، آسفين، وأين منهم السيّد "نرسيس" الذي فقشوا حصرمة في عينه.
استاذ جامعي لبناني، كاتب