الخميس 08 مايو 2025
29°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الاعتدال والابتعاد عن التطرّف
play icon
كل الآراء

الاعتدال والابتعاد عن التطرّف

Time
الثلاثاء 06 مايو 2025
View
20
د.جورج شبلي

في اللّغة، إنّ مفهوم الاعتدال هو الابتعادُ عن التطرّف، أو هو التوسّطُ بين حالَين. أمّا في السياسة، فيعني الاتّزانَ في الحُكم، والرأي، وتَجَنُّبَ المواجهة الحادّة، وملازمةَ الموقفِ الوسط. وفي عِلمِ الأخلاق، هو فضيلةٌ تَكبحُ جَماحَ الأَهواء، وتضبطُ الرّغباتِ، وتقمعُ الشّهوات.

واستناداً، يبدو أنّ الاعتدالَ هو سِمَةُ العاقِلين الحريصينَ على التروّي، أولئكَ المُنكفِئين عن التطرّفِ الممجوج، والمتوازِنين مع مَسار الاستقامةِ والحَذَر. من حيثُ المبدأ، يُقبَلُ الاعتدالُ على أنّه القاسمُ المشترَكُ الذي يقفُ على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، ويعملُ على تدويرِ الزوايا، أو تَليينِ المُسَنَّناتِ، خاصةً في مرحلةٍ ملتهِبةٍ يمرُّ بها المجتمع، أو الوطنُ، أو الأمّة.

من هنا، يُعتَبَرُ الاعتدالُ موقفاً تَسوَوِياً ذا مواصفاتٍ يقبلُها الجميع، وبالتالي، يمكنُ له، بطَرحِهِ معالجاتٍ متوازنة، أن يعبرَ، إيجابيّا، الجماعاتِ، والتكتّلات، والأفرقاء، والكَمَّ الأكبرَ من النّاس.

من حيثُ الممارسة، فإنّ تطبيقَ المرونةِ في المواقف، والآراء، ومَدَّ عُرى الرّوابطِ مع الجميعِ على حَدٍّ سواء، أي عدم الانحياز الى التطرّفِ المؤدي الى الصّراع، فذلك لا يعني، بتاتاً، اتّخاذَ موقفٍ رماديٍّ مُغَبَّش، أو موقفٍ فاتِر، كما يُتَّهَمُ الذين طرحوا مبدأ الوسطيّة، عُبوراً الى مساحة الديبلوماسيّة، بمفهومِ تَجَنُّبِ النّزاعات، وإدارةِ التّفاوضِ لبناءِ علاقاتٍ إيجابيّةٍ ناشطة بين الأطراف، وهذا هو بيتُ القصيدِ في مفهومِ الاعتدال. ربّما يحلِّقُ الأداءُ في جوٍّ آخر، فيتلطّى مُدَّعو الاعتدال وراءَ مواقفَ نظريّةٍ مُلفِتَة، بمعنى أنهم ينادون بالاعتدال، لكنّهم يتجاوزون الحدَّ من خلفيّةٍ مُغرِضة، وهكذا، ينحرون الوسطيّة المُدَّعاة، ليصبحوا فريقًا. ومن الأمثلة في هذا الصَّدَد، مَنْ يُلقونَ مطوَّلاتٍ في محاربةِ الفساد، وإعلان أنّهم رأسُ رمحٍ في محاربتِهِ، وهم، في المقابلِ، طَويلو الباعِ في الإمساكِ بالحصَّةِ الكُبرى في المُحاصَصة، والتَّقاسم، ومردودِ الثّروة العامة. أينَ الاعتدالُ لدى مرجعيّاتٍ تدَّعي الوطنيّة، عندما تَعتبرُ أنّ حمايةَ البلدِ الحقيقية تكمنُ في أدن يكونَ هذا البلدُ مَحميَّةً لغيرِه؟ إنّ ادّعاءَ الانتماءِ والولاء، هنا، هو إعدامٌ صريحٌ للوطنيّةِ، واغتيالٌ للاعتدال، ما يؤدّي الى تقويضِ أمنِ البلاد، وتشليعِ بُنى الدولة، وتعريضِ كيانِها للخطر، وهكذا، يدخلُ هذا الموقفُ في حيثيّةِ الخيانةِ العُظمى التي أَجمعَت دساتيرُ الأُمَمِ على أنّها من الجرائمِ التي لا تَسامُحَ معها، وعقابُها شديد. هنالك، إذًا، تَبايُنٌ بين التّنظيرِ والتّطبيق، في مسألةِ الاعتدال، حتى باتَت هذه القضيةُ مشكلةً نوعيّةً في التّعاطي، وفي علاقاتِ النّاس.

مِمّا لا شكَّ فيه أنّ الثّقةَ بالاعتدالِ وعدمِ التطرّف، تُحفَة، فلربّما رَمَقَ الحقُّ النّاسَ بنواظرِ الاعتدال، لكنّ العِبرةَ تَكمُنُ في التّنفيذ. فلطالما شُنَِّفَت آذانُ النّاس بخُطَبٍ عصماءَ، في مسألةِ الديمقراطيّةِ والحقوق، يسوقُها مَعنِيّون متضلِّعون من التّنظير، ولكنْ، عندَ الانتقالِ الى حَيِّزِ الفِعل، تَطفو على سَطحِ الأداءِ شُروخٌ، ونَحرٌ لمفهومِ الديمقراطية، بتقسيمِ الناسِ الى شُرفاءَ ورعايا، وبالاحتكامِ الى قانونِ القوّةِ بدلا من قوّةِ القانون، وباختزالِ القرارِ الوطني، ما يرسِّخُ هيمنةً ديكتاتوريّة لا تمتُّ الى الديمقراطيّة بِصِلَة.

في خِضَمِّ النّقاشِ في مسألةِ الاعتدال، ينبغي فَكُّ أَسرِ مفهومِ الحيادِ من تنظيراتِ المتطرِّفين. من هنا، يميلُ بعضُ علماءِ الاجتماع السياسي الى إعلانِ أنْ لا اعتدالَ من دون حياد، ويعتبرُ هذا البعض بأنّ ميثاقا يقومُ بينهما، بمعنى أنّ حمايةَ الاعتدالِ لا يضمنُها إلّا الحياد.

في الواقع، إنّ الأزمةَ الستراتيجيّةَ، في بعضِ دُوَلِ المنطقة، هي الموقفُ المتطرِّفُ، أو كما يفسّرُه ماكس فيبر بأنّه قوّةُ الإرغام، والتي تحتكرُ القرار، ما ينسفُ الاستقرارَ، ويفرِغُ مفهومَ الاعتدالِ من مضمونِه. في هذا المَجال، ينبغي التّأكيدُ على أنّ الحَيادَ لا يعني، إطلاقاً، اللّامبالاةَ في القضايا التي لها صِلةٌ بالوعي الاجتماعي، والأخلاقي، فلا حيادَ بين الخيرِ والشرّ، أو بين العدالةِ والظُّلم، ما يؤكّدُ على أنّ الحيادَ لا يعني المساواةَ بين الجَلّادِ والضحيّة.

وينسحبُ موقفُ عدمِ الحيادِ، كذلك، على القضايا المرتبطةِ بالأمّة، وعدمِ التنكّرِ لها، ولأحقيّةِ مَنْ طُرِدوا من أرضِهم، وبيوتِهم، وأرزاقِهم، بغيرِ حقّ، في استرجاعِ ما سُلِبَ منهم. فلا حيادَ، إذا، في مسألةِ الصّراعِ العربي- الإسرائيلي في القضيةِ الفلسطينيّة المركزيّة. إنّ مُصطَلَحَ الاعتدالِ ليس بِدعةً، فهو يحصِّنُ صاحبَه، ويعزِّزُ موقفَه، فالتّراشقُ بالتطرّفِ ليس حلاً، وممارستُه عقيمةٌ توصِلُ الى التّباعدِ والعدائيّة، من هنا، ينبغي أن يكونَ الاعتدالُ ثقافةً تُرَسَّخُ في اللّاوعي الجَماعي، وتُعتَمَدُ أصلا في التنشئةِ والتربية، ما يُنتِجُ إثراءً إنسانيّا على مدى الأجيال.

استاذ جامعي لبناني وكاتب

آخر الأخبار