الخميس 15 مايو 2025
35°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
النّموذج اللبناني ليس خُرافة
play icon
كل الآراء

النّموذج اللبناني ليس خُرافة

Time
الثلاثاء 13 مايو 2025
View
10
د.جورج شبلي

طالما رأى اللبنانيّون، ومعهم أشقّاؤُهم في مجتمعِ العالَمِ العربي، خلالَ عُقودٍ وعُهودٍ سابقة، آثارَ تعذيبٍ على جسدِ الوطنِ اللبنانيّ، وكأنّه أُخضِعَ لاستجوابٍ مارسَته جِهاتٌ عَصْبَويةٌ ترمي الى تَطويعِه، والى جَرِّهِ لمبايعةِ أهدافٍ دخيلة، لا تمتُّ بِصِلَةٍ الى العُروبةِ انتماءً، والى الوطنِ ولاءً.

وقد حوَّلَت هذه العَصبويّاتُ أزمنةَِ لبنان الى عصورِ ظلام، وقلق، والى خَوفٍ نشأَ على رمادِ حوارِ الحضارات، بعدَ أن كان حضورُهُ فاعِلا مُنفَتِحا، ومُنحرِطا في هَمِّ الحيثيّةِ المشرقيّة، ولم يكن، يوما، وجودا تراكُمِيّا.

إنّ أَخطَرَ ما واجهَ لبنانَ، في زمنٍ قريب، كان تَوَلّي بعضِهم تَحويلَ التّرهيبِ، فيه، من ظاهرةٍ الى نظام.

وقد شكّلَ هذا البعضُ محنةً حقيقيةً للبلاد، بغَرزِهِ المزيد من التشظّي في جسمِ الوطن، وبإثارتِه حالةً من الفوضى الممقوتة، وبتسويقِهِ مشاريعَ مشبوهة جعلَتِ الشّعبَ المُنهَكَ ينوءُ تحت ضغوطِ التّهديد، والضّجيج الإعلامي المُوَجَّه، والأداءِ الأَعوَج، ويعاني، بالتالي، هزائمَ فكريّةً ونفسيّة.

وكان من شأنِ هذا السّلوكِ المرفوض، أن يطرحَ السؤالَ المُخيف: هل يعيشُ لبنانُ وضعَ المُوَدِّعِ لنموذجٍ كان مجرَّدَ خرافة؟

مهما كانت قراءةُ الأحداثِ الماضيةِ تنطلقُ من نِيّةٍ حَسَنَة، غيرَ أنّ الوقائعَ لم تتركْ مجالاً للشكّ بأنّ مشهدَ لبنان، كان في دائرة النّار. ومن الأَجدى القَولُ أنّ مرحلةَ ما قبل الدولة، والتي تجاوزَها أكثرُ أقطارِ الدّنيا، قد استعيدَت، في لبنان، لتُشَوِّهَ مُحَيّا المدنيّة، فيه، وتنحرَ سيادةَ القانون، وتدمِّرَ دولةَ المُواطَنة، وتُفَسِّخَ النّسيجَ الوطني، وتفرضَ إيديولوجيّةً لها مَذاقٌ شاذّ، وتفتحَ صفحةً دراماتيكيّةً غريبةً عن عصرِ التّنوير، والرُقِيّ.

إنّ لبنان كان، دوماً، موئلَ تَواصُلٍ بين مكوِّناتِه، والجَماعاتِ خارجَه، وهذا عامِلٌ انفتاحيٌّ عائدٌ لدُربةِ أهلِه الى التحرّرِ، والحوار، والتّلاقي، والتّكاشُف، بديلًا عن التّصادمِ والتّنافرِ، ما يؤمِّنُ المناخَ الملائمَ للالفة، ويختصرُ المسافةَ بين الإنسان والإنسانِ، والذي من شأنه أن يُلغيَ ثقافةَ الإقصاءِ والإلغاء، والتّهمةَ بالانعزال.

لكنّ تَحطيمَ أَرْجُلِ الطاولةِ المُستديرة، لأنّ المُحطِّمين اعتبروا أنّ اجتماعاتِ الحوارِ مَضيَعةٌ للوقت، قد جعلَ الأحاديّةَ هي السّائدة، مُرتكزةً على استقواءٍ يُطلِقُ التّحذيرَ، والوعيدَ، من فُوَّهَتِهِ، في كلِّ اتّجاه، وذلك ما سحقَ صَفوةَ الوطنِ الذي وقَّع، مُرغَماً، عقداً مع طقوسِ الفوضى، والخوف، والهجرة، واستبداديّةِ المُستَقوي، وتَلاشي الأمالِ بالأفضل.

اليوم، الشّعبُ المُتَوَعِّكُ موعودٌ بطريقٍ جديدٍ موصِلٍ الى عهدٍ لا رَيبَ فيه، عادلٍ وِفاقًا لأَحكامِ القانون، وذي طابعٍ هادئٍ نبيلٍ واعٍ، بعيدٍ عن الانفعالِ والتطرّف.

إنّ عامِلَ الثّقةِ بالعهدِ الجديد، شكّلَ مدعاةً للطمأنينة، ولبناءِ وطنٍ خلّاقٍ، مُدهِشٍ، حُرٍّ، مُصِرٍّ على الرّفاهيةِ، والإيمانِ بالمستقبل. أوليسَ من حقِّ الناسِ، أن يتنعّموا بالأمانِ، والسعادة، والعَيشِ الرّاغِد، وهذا ليس امتيازًا، أوليسَ حريًّا بالقيِّمين على السّلطة، أن يَطمروا ذاكرةَ الدّماء، ويبَدِّدوا أصداءَ الخَيبات، ويُجهِضوا هواجسَ الحَذَر، ويُرووا عطشَ الشّعبِ الى العافيةِ من ينابيعِ الحريّة، والكرامة، والبحبوحة؟

أي حقيقةٍ نريدُ أن نقول؟ لا نريدُ من العهدِ الجديدِ أن يجترحَ المعجزاتِ، ويقهرَ التّاريخ، ويثبتَ أنّه، وحدَه، طريقُ البلادِ من الكآبةِ والانهزامِ الى الخلاصِ والحياة، فقَولُنا هو باطِلُ الأباطيل، يدخلُ في نِطاقِ التأمّلِ الصّوفيّ الذي يقتربُ من المِثاليّةِ ورحلةِ الخَيال، وفي ذلك زَوَغٌ مُؤَكَّدٌ عن الواقعيّةِ.

لكنّنا نريدُ من العهدِ الجديدِ، وهو المدعومُ من القوى العربيةِ والدوليّة، ألّا يتركَ الوطنَ ذبيحاً يرتعش، في كَنفِ طارئينَ يراكِمونَ فوقَ صدرِهِ صُخوراً، ويغرزون في لَحمِهِ مِخلبَهم الأَسوَد.

في هذا الصَّدَد، ينبغي أن نُشيرَ إلى انبثاقِ الملامحِ الأولى لأسلوبِ التّعاطي الوطنيّ للعهد، والذي حصَّنَ لبنانَ بالعافية، وردَّ عنه رياحَ الزّمنِ الشّديد. وقد تَجلّى ذلك في أداءِ وزراءَ في الحكومة، لا سيّما في الخارجيّةِ والطّاقةِ والعدل، ما أعادَ إلى البلادِ مناخَ التّعافي، أو البُعد الصحّي المطلوب، الذي ينقلُ أنفاسَ المتوجِّع الى شفاءٍ يجعلُه يتنعّمُ بالحياة.

وليس من بابِ المبالغة أن نُشيرَ الى أنّ لبنان، وبعدَ المرحلةِ الصّعبة التي انتابَته، والظّروفِ الصّادمة التي كادَت أن تُجهِز عليه، هو بحاجةٍ ماسّةٍ الى نهضةٍ فِعليّة، ليستعيدَ توازنَه، وحضورَه، ومشاركتَه الفاعلةَ في محيطِهِ العربيّ، وفي العالَم. وهذه النّهضة لن تتحقّق، وتنتقل من القوّة الى الفِعل، إلّا بتوافرِ النّشاطِ الأهليّ، وكفاءات المسؤولين، والدّعم المشكور من الأشقّاء العرب، لا سيّما في الخليجِ موئلِ الكَرَم، والنّبل، والتّسامي الخُلُقي، والقِيَمِ السّامية.

أستاذ جامعي لبناني

آخر الأخبار