خبيرة المالية العامة بجامعة الكويت أكدت لـ"السياسة" أن الإصلاح الاقتصادي اليوم ضمان للاستقرار غداً
تحقيق الاستدامة المالية يتطلب حزمة إصلاحات أهمها تنويع المصادر
الإيرادات الضريبية غير النفطية بالكويت لا تزال الأدنى بين دول التعاون
تقليص الهدر وإعادة توجيه الميزانية نحو مشاريع تنموية ذات أثر مستدام
ناجح بلال
أكدت خبيرة ومختصة القوانين المالية العامة والتشريعات الضريبية بكلية الحقوق جامعة الكويت د.جمانة الصيرفي على أهمية تنويع مصادر الدخل في ظل المتغيرات الاقتصادية الإقليمية والعالمية، حيث تبرز الاستدامة المالية كضرورة وطنية وليست مجرد خيار لاسيما وأن الكويت تعتمد بنسبة تفوق 85% على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات العامة، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن ضمان الاستقرار المالي على المدى البعيد يتطلب تحولاً جذرياً في السياسات الاقتصادية، بما يعزز من قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، ويمنع انتقال الأعباء إلى الأجيال القادمة. وقالت د. الصيرفي لـ"السياسة" إنه رغم الفوائض المالية التي حققتها الدولة في السنوات الأخيرة نتيجة ارتفاع أسعار النفط، إلا أن تقارير صندوق النقد الدولي تؤكد أن هذه الوفرة لا تعني بالضرورة استقراراً طويل الأمد حيث إن تقلبات أسعار النفط والإنتاج، والتحولات العالمية نحو الطاقة النظيفة، تحتم على الكويت سرعة اعتماد آليات جديدة لتنويع مصادر دخلها، وتقليل حساسيتها تجاه الصدمات الخارجية.
ثلاثية الاستدامة
وأشارت د. الصيرفي إلى أن تحقيق الاستدامة المالية يتطلب حزمة إصلاحات مترابطة يأتي في مقدمتها تنويع مصادر الدخل عبر تطوير القطاعات غير النفطية، مثل الصناعة، السياحة، والخدمات الرقمية وعن الجانب الثاني يأتي الاهتمام برفع كفاءة الإنفاق الحكومي من خلال تقليص الهدر وإعادة توجيه الميزانية نحو مشاريع تنموية ذات أثر مستدام. وثالثاً، وهو الأهم، بناء نظام ضريبي حديث وعادل يسهم في توليد إيرادات مستدامة لاسيما وأن الضرائب في الكويت لا تمثل سوى نسبة ضئيلة جداً من الناتج المحلي الإجمالي. واستشهدت على صحة وجهة نظرها بتقارير صندوق النقد الدولي التي أوضحت أن الإيرادات الضريبية غير النفطية لا تزال الأدنى بين دول مجلس التعاون، إذ تعتمد الدولة بشكل أساسي على أرباح الاستثمارات وليس الضرائب وحذرت التقارير من أن هذا الواقع لا يمكن استمراره، فضلا عن أن الكويت لا تدخر بما يكفي للأجيال القادمة، وهذا ما يعزز الحاجة لإصلاحات مالية وهيكلية تدعم العدالة والاستقرار على المدى البعيد.
الضريبة الانتقائية
واضافت الصيرفي استشعاراً لحجم التحديات، تبنت الدولة حزمة من التشريعات المهمة في إطار دعم الاستدامة من أبرزها المرسوم بقانون رقم 60 لسنة 2025 بشأن التمويل والسيولة، والذي يتيح للحكومة اقتراض ما يصل إلى 30 مليار دينار خلال خمسين عاماً، بغرض تمويل الميزانية العامة، وإدارة الدين، وسداد الالتزامات، موضحة أن هذه الخطوة تمثل ركيزة مالية لتأمين السيولة دون المساس بصناديق الثروة أو اللجوء إلى حلول قصيرة المدى.
واوضحت أن الدولة في إطار الإصلاح الضريبي، أعلنت من خلال وزارة المالية عن إعداد قانون الضريبة الانتقائية، التي ستفرض على السلع الضارة بالصحة كالتبغ والمشروبات الطاقة والمحلاة، لاسيما وأن إحصائيات مجلس الصحة الخليجي تشير إلى أن تطبيق هذه الضريبة بنسبة معتدلة قد يدر على الكويت إيرادات بنحو 639 مليون دينار بين 2025 و2029، مع خفض استهلاك السجائر بنحو 4 مليارات سيجارة والمشروبات السكرية بنحو 220 مليون لتر، بينما قد تصل الإيرادات إلى 997 مليون دينار إذا طبقت الضريبة بنسبة أعلى.
ولفتت الى ان هناك اشارات الى احتمالية إعداد مشروع قانون لفرض ضريبة على أرباح الأعمال المحلية، في خطوة تهدف إلى توسيع القاعدة الضريبية وتعزيز العدالة المالية، لا سيما أن الكويت لا تفرض حالياً ضريبة أرباح على معظم الشركات المحلية. ويأتي ذلك بالتوازي مع تطبيق ضريبة الحد الأدنى العالمية على الشركات متعددة الجنسيات، حيث صدر المرسوم بقانون رقم 157 لسنة 2024 بشأن فرض الضريبة على مجموعة الكيانات متعددة الجنسيات، والمعروفة باسم الضريبة المحلية التكميلية (DMTT)، تماشياً مع الركيزة الثانية لمبادرة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
ويستهدف هذا التشريع الحد من تهرب الشركات الكبرى من الضرائب عبر نقل أرباحها إلى دول منخفضة الضريبة، ومن المتوقع أن يحقق إيرادات سنوية تقدر بنحو 250 مليون دينار كويتي ابتداءً من السنة المالية 2027–2028، وفق تقديرات وزارة المالية.
العملات المشفرة
وعن التحديات الضريبية في العصر الرقمي قالت د.الصيرفي على الرغم من الزخم التشريعي، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه النظام الضريبي في الكويت، خصوصاً مع تسارع التحول الرقمي وظهور نماذج اقتصادية جديدة لا تخضع للأطر التقليدية للضرائب أبرزها انتشار الخدمات الرقمية عبر الحدود، التي تقدم دون الحاجة إلى وجود مادي دائم أو مقر ثابت داخل الدولة، مثل منصات البث، والتطبيقات الإلكترونية، وخدمات البرمجيات السحابية (SaaS)، والإعلانات الرقمية.
واوضحت أن هذه الأنشطة تحقق أرباحاً من السوق المحلي دون أن تكون خاضعة فعلياً للمساءلة الضريبية، ما يحدث فجوة واضحة في العدالة الضريبية ويقلص من قاعدة الإيرادات فضلا عن اتساع نطاق استخدام العملات المشفرة مثل "بيتكوين" و"إيثيريوم"، التي تمثل أصولاً لامركزية يصعب تتبعها، وتستخدم في التداولات والاستثمار دون رقابة مصرفية مباشرة موضحة أن هذه الخصائص تفتح الباب أمام التهرب الضريبي، وغسل الأموال، وتفتح الباب كذلك لتحديات تصنيف الأصول—هل تعامل كعملة أم كأصل رأسمالي أم كسلعة؟ ولهذا فهي تشهد تعقدات عملية لتحديد الوعاء الضريبي لها بدقة.
تشريعات حديثة... رقمية
ونبهت د. الصيرفي أنه في ظل غياب إطار قانوني وتنظيمي واضح في الكويت ينظم هذه الأنشطة الرقمية والافتراضية، تصبح الحاجة ملحة إلى تشريعات حديثة متخصصة، ترافقها بنية إلكترونية متكاملة تربط الجهات الضريبية بمزودي الخدمات المالية والتقنية، بما يضمن الشفافية، الالتزام، وسد ثغرات التهرب الضريبي في العصر الرقمي.
وقالت إن الكويت اليوم أمام لحظة فارقة حيث تملك من الاحتياطيات السيادية والقدرات المالية ما يؤهلها لتنفيذ إصلاحات ضريبية وهيكلية شاملة من موقع قوة، وليس تحت ضغط الأزمات. ولذلك حذر صندوق النقد الدولي أن تأخير هذه الإصلاحات يزيد من هشاشة النظام المالي، ويضعف الثقة في قدرته على الصمود في وجه التحديات المقبلة. وأكدت أن بناء نظام ضريبي حديث لا يتعلق فقط بتحصيل الإيرادات، بل بتحقيق العدالة الاجتماعية، وإرساء شراكة فاعلة بين الدولة والمجتمع في تمويل التنمية، وتأمين مستقبل الأجيال القادمة. إنها مسؤولية وطنية تتطلب إرادة سياسية واعية، وتشريعات واضحة، وثقة مجتمعية في أن الإصلاح اليوم هو ضمان الاستقرار غداً.