مختصر مفيد
هم من ناموا في الصيف ليلا فوق سطح البيت، ومشوا صباحا إلى المدرسة التي تبعد مئات الأمتار عن منازلهم، وعادوا منها ظهرا تحت الشمس والأمطار، وركبوا باصات شركة النقل العام لتنقلهم من ساحة الصفاة الى كيفان، أو الخالدية، أو السالمية، مثلا، وذهبوا لدور السينما، فدفعوا مئة فلس للصف الأول الرخيص، أو ربع دينار للمقعد المريح، وكانت تذكرة السينما تشمل ضريبة لكفاح الجزائر، فلما استقلت صرنا ندفعها للفلسطينيين.
جيل الطيبين لم تكن لديهم هواتف نقّالة، وكانوا يستعدون للامتحانات بالمذاكرة على شواطئ البحر، أو في الطرق قرب مصباح الشارع ليلا، وهم الذين يتعرضون للشتم من المدرس، أو للضرب المبرح على يده.
كان الصغار منهم يشاهدون برنامج " أفتح ياسمسم" في التلفزيون، و"فوازير رمضان" بعد العصر، وبرنامج "العلم للجميع"، و"سينما في أسبوع".
لم نحتج إلى باصات مكيفة، ولم نخش على أنفسنا، في الماضي كان للأم نفوذها، وللمعلم نفوذه، وللمسطرة الخشبية الطويلة نفوذ، نبلع ريقنا أمامها، كانت تؤلمنا، لكننا كنا نحترم المعلم.
في الماضي كان ابن الجيران يطرقُ الباب ويقول: "أمي تسلم عليكم، وتقول عندكم معجون طماط"؟ إخوان في الجوار والجدار، وحتى في اللقمة.
في الماضي كانت الشوارع بعد العاشرة مساء تخلو من المارة، فالكل في منزله، هم من جيل إذا صدم مواطن بسيارته سيارة مواطن آخر خرج الاثنان من سيارتيهما يبتسمان، واقترب كلاهما من الآخر يلقي عليه التحية، بل ويقبله في خده، كما نفعل في الأعياد! أي حادث الصدمة بمثابة عيد.
هم من كانوا يستمعون لبعض المطربين بأغانيهم العربية الفصيحة، أبرزهم سعود الراشد وعوض دوخي، للمطرب سعود الراشد أغنيته الشهيرة التي تقول: "السحر في سود العيون لقيته، والبابلي بلحظهن سقيته، الناثرات وما نثرن لحظة، بمجدر بين الضلوع مبيته".
هم من وضع الفخ لصيد الطيورعلى سطح البيت أو في البر، هم من قلوبهم طيبة، تحملوا الإساءة، حتى بعد خروجهم من الديرة (وسط البلد)، تجري في دمائهم مشاعر ذاك الجيل.
كانت هناك كابينات هاتف في شارع "فهد السالم" في بداية استقلال الكويت، مثلما نرى في الأفلام الأميركية، يدخلها الشخص، ويغلق عليه الباب الزجاجي، ويتكلم مجانا دون أن يدفع فلساً واحداً.
شكل "الكابينة" راق ومتحضر، لكن مع كثرة الناس في البلد حطمت النفوس الرديئة الزجاج، وبالطبع الباب، وسرق الهاتف، وكنا ونحن فتياناً نستقل باصات "شركة المواصلات"، وهي "مرسيدس" الألمانية، بمقاعد جلدية مريحة، وبمرور الوقت أخذ بعضهم ينتف المقعد، فتخرج منه بطانة الإسنفنج الأصفر، فمُزقت هذه المقاعد الجميلة، فاستوردت الشركة سيارات تجميع بلد عربي بمقاعد بلاستيك مزعجة.
في الستينات والسبعينات تبوأت الكويت مراكز رائدة في المجالات الرياضية، والمسرحية، والثقافية، وزارها كثير من المطربين والفنانين العرب، وكان الأمن يسود البلاد بدليل أن أبواب منازل الكويتيين كانت مفتوحة، وكان الفكر الديني متسامحاً غير متشدد، ولم نرَ، حينذاك، أي منشور يبث الفتنة بين المصلين، ولا نستمع لخطب تؤجج المشاعر الطائفية، ولا نهبٍ لأموال صندوق التبرعات بالمسجد، ولا فساد بوزارة "الأوقاف"، ولاخطبٍ هي أقرب للسياسة منها للدين، ولم نعتد على رؤية المشاجرات، اللفظية أو الجسدية، بين أبناء البلد الواحد، بل سادت بيننا روابط المحبة.
تغيرت الأحوال، إذ تعرضت الكويت لأخطار خارجية هددت أمنها كدولة، كتفجيرات "المقاهي الشعبية"، والاعتداء على موكب أميرنا الراحل الشيخ جابر، طيب الله ثراه، أثناء الحرب العراقية ــ الإيرانية، ثم الاحتلال العراقي.
وعاش أبناء الوطن قسوة الأحداث المتتالية، فتبدلت نفوس كثير منهم، فظهرت أشكال مختلفة من العنف، وتغير المجتمع عما كان عليه.
لقد ذهب الطـيبون، فهل تعود أيها الزمن الجميل؟
[email protected]