عندما تمَّ التقدّمُ باقتراحٍ تاريخيٍّ إلى اللبنانيّينَ، وذَوي السّلطةِ، مُتَضَمِّنا بَندَين يندرجان في الستراتيجيةِ الوطنية، هما اعتمادُ الحيادِ، وحصريةُ السّلاحِ بيَدِ الدولة، كَحلٍّ إنقاذيٍّ مُتاحٍ، للأزمةِ التي أَتَت على أَخضرِنا واليابِس، نَذكرُ أنّ البعضَ سارعَ إلى ردَّةِ فعلٍ انفعاليةٍ غيرِ مُبَرَّرَة، تُجاهَ ذلك الطَّرح. ولمّا كان مطلوباً تَوَخّي القراءةِ المُتَأَنِّيَةِ وغيرِ المُتَسَرِّعة، لهذا الاقتراح، لئَلّا يقعَ المُتَسَرِّعُ في المَحظور، فقد وقَع.
ما هي الأَسبابُ والخلفيّاتُ التي دَفعَت الى موقفٍ متطرِّفٍ يرفضُ مبدأ الحياد، وتسليمَ السّلاحِ للدولة، ومن دون تقديمِ بديلٍ يُمكنُ اعتمادُهُ حلّا للأزمة الشّائكة؟
إنّ الحياد يعطي أيَّ دولةٍ الحقَّ في النَّأيِ بِنَفسِها عن الصِّراعات الدّائرة، وفي عدمِ الانحياز لأَيٍّ من المَحاور، ضماناً لأَمنِها وسلامةِ شعبِها، وانطلاقاً من أنّ الدولةَ تمتلكُ، وحدَها، حصريةَ السلاح كما هو معمولٌ به في دُوَلِ العالَم كافةً، يُمكنُ أن نفهمَ، تماماً، عقلانيّةَ الدعوة الى اعتماد الحياد، وحصرِ السّلاح بالدولة، سبيلاً للخلاص. أمّا الغريبُ فهو أنّ المُنفَعِلين الرّافضين لم يصدرْ عنهم إلّا اعتبارُهم أنّ الذين طرحوا الحياد، وحصريّة السّلاح، كحلٍّ متوافِّر، هم عملاءُ ينفّذونَ مؤامرةً صهيونو- أميركيّة، وهي مرفوضةٌ جُملةً وتفصيلاً، وبذلك، لم يحيدوا عن روتينيّةِ المواقفِ والتَّصريحات المُكرَّرة، ليقدّموا بديلاً يقبلُ به أكثرُ الدّاخِلِ، وأغلَبُ الخارج.
مِمّا لا شكَّ فيه أنّ الوضعَ الحالي قد تَمادَت نتائجُه الكارثيّةُ، على مدى خارطةِ البلاد كلِّها: خوفاً، وجوعاً، وفَقراً، وبطالةً، وهجرةً، وإفلاساً، وزجّاً في أتونِ حربٍ لا شأنَ للبنانَ بها، خلّفت ضحايا ودمارا.
إنّ هذا الواقع الذي لا يمكنُ تَجاهلُهُ، شكّلَ قاعدةً تُلزِمُ، موضوعيّاً، ووطنياً، إيجادَ مخرجٍ آمِنٍ، يُساهِمُ في ترسيخِ سلامة البلدِ وأهله، ويمنع إثارةَ أحداثٍ غيرِ محسوبةِ العواقِبِ، تُؤَدّيَ الى انهيارِ الوطن، دولةً وكيانًا، وحضورًا.
من هنا، واستناداً الى الحيادِ الذي تَبَنَّته دُوَلٌ كثيرةٌ، ما ساهمَ في استقرارِها، ونموّها، وأمانِ مواطنيها، واستناداً الى ما هو مُتَّبَعٌ في أقطارِ الدّنيا من أنّ السلطةَ الرسميّةَ، وحدَها، تمتلكُ قرارَ الحربِ والسِّلم، والسّلاح، كان لا بدَّ من العَدوى المفيدة، والسَّيرِ في ركابِ هذه الدُّوَل، واعتمادِ الحيادِ وحصريّةِ السّلاح، حلّا مُجَرَّباً، نتائجُه الإيجابيةُ موثوقة.
ولمّا كان هذا الطَّرحُ هو الحلَّ الوحيدَ الذي يُعيدُ للبلادِ سيادتَها، وأمنَها المنهوب، كان لا بُدَّ من دعوةِ الأممِ المتّحدةِ، وجامعة الدّول العربية، الى عَقدِ مؤتمرٍ خاصٍ بلبنان، لحمايته، وتأكيدِ حيادِه، لانتشالَه، بشكلٍ نهائيّ، من جهنَّم التي زَجَّه بها بعضُ مَن كانوا في السّلطةِ، والمُستقوون الذين يتستَّرون بالهويةِ اللبنانية، ويمحضون ولاءَهم لسواها.
إنّ القضيّةَ لا تزالُ شائكة، رّغم العهد الجديد في لبنان، وذلك بوجودِ جهةٍ مُستَنفِرَةٍ مُكابِرة، ترفضُ الحيادَ، وحصريّةَ السّلاح، اللّذَين يشكّلانِ المشروعَ الذي يضعُ حدّا لِنَحرِ سيادةِ الوطن، ولانهيارِ مؤسّساتِهِ، ويسحبُ صُكوكَ دحرجةِ البلادِ إلى هُوَّةٍ لا يُمكنُهُ الخروج من قَعرِها.
من هنا، فإنّ قراءةَ الوقائعِ، بمسؤوليةٍ واعية، وبحسٍّ وطنيِّ التَوَجُّه، يمكنُ أن تشكِّلَ المسارَ الوحيدَ الذي يسعى إلى إخراجِ الوطنِ من دائرةِ النّار، ومن جداولِ القَتل، وإنّ تبنّي سياسةِ الحيادِ الآمِنِ نظاماً قانونياً، وحصرِ الأسلحةِ بيَدِ القوى الشرعية، يحمي الاستقلال الوطنيّ، ويُبعِدُ البلاد عن الانزلاقِ الى صراعات المَحاورِ المسلَّحة، ويجعلُ الوطنَ واحةَ سلامٍ منيعة.
أمّا ما انفلَشَ من مواقفَ انفعاليّةٍ، ولا يزالُ ينفلِش، رَفضاً لطَرحِ الحياد، وحصرِ السّلاح بالدولة، فيعودُ، دون أدنى شكّ، الى نِيَّةِ المستقوين بالسّلاح الخارج عن الشرعية، بالاستمرارِ في الزَجِّ بلبنانَ في حروبٍ قاتلةٍ، عبثيّة، تؤدّي، حتماً، إلى تَدميرٍ للوطنِ، بِما فيهِ، ومَنْ فيه.
أمّا إسراعُ المُنفَعِلين الى اتّهامِ المنادين بالحيادِ وحصريّة السّلاح، بأنهم "صهاينةُ الدّاخل"، وهم أصلُ العمالةِ والخيانة، فمسألةٌ "بروتوتيبيّةٌ" ممقوتة، تنطقُ أَبواقُها بِخطابٍ واحد، وبِما يُملى عليها بالتّحديد، وقد أصبحَ هذا الاتّهامُ تقليداً يلجأُ إليه جماعةُ أهلِ الكهف، الذين سقطَتِ الحجّةُ من أيديهم، وهم يعلَمون بِعدمِ جَدوى التّهمة الباطلة المُوَجَّهة الى الوطنيّين، ومعروفٌ مَن يجب اتّهامه بها. إنّ طرحَ الحياد، وتسليمِ السّلاح الى الشرعية، وحدَه، يحصِّنُ الوطنَ من استعمارٍ جديد، هو أَسوَأُ من أسلافِه، إيديولوجياً، وإنكاراً للهويةِ الكيانيّة، وتهشيماً لشرعيّةِ الدولة، واستبدالاً للديمقراطية بثيوقراطية مُحَنَّطَة. وهذا مشروعٌ مُدَمِّرٌ يستهدفُ لبنان، ويفتحُ له بابَ جهنّم... فهَل، هنالك، بعدُ، مَنْ له أُذُنان؟
استاذ جامعي لبناني وكاتب