هل رأيت عفريتاً يوماً داخل صندوق، هل أصبحتما صديقين، وآمنته على كل أسرارك، هل حاولت تقمص شخصيته، حتى أصبحت هويتك فى خبر كان؟
نعم هذا ما يسمي طمس هويتك، جيناتك الذرية التي تلوثت من هذا الصندوق الأسود، الذي تحتضنه بين يديك.
فى هذه الفوضى التي نعيش فيها، بل ونفتعلها، توجهنا تلك القطعة الحديد التي لا تكاد تفارق أيدينا حتى بعد النوم، فهي تنبض بالحياة، وتلتصق بك كالسمك "الماصة" الطفيلية، التي تخترق جسد القرش من أعلى لتمتص دمئه.
نعم، فقد تغيرت حياتك، وأصبحت إنساناً ينازع الفطرة والطبيعة، في محاولة للتشبث بأسلوب الحياة الذي لا يتوافق مع جيناتك وذراتك في هذا العالم.
لقد تحول معظم البشر الى مسوخ، كما مسخ كل شيء منذ بداية القرن الماضي، فقد تلاشى الأبداع، ووقوف البشر في طوابير يتهافتون بإرادتهم لحمل التقنية الممسوخة التي نازعت هذا التغيير القاتم، قبل ان تحول حياتك جحيماً.
فعوضاً عن اطلاق العنان للإبداع، يتم اتخاذ التقليد كنبراس، والكمال المزيف كمرسى.
تحركك رياح عاتية من العادات والأساليب الشاذة التي قد تغير من طبائعك، بل وشخصيتك بالكامل خلال اشهر معدودة، فتظهر فى حلة جديدة تماماً مستعينا بـ"الفلاتر" التي قد تطمس على ملامحك الحقيقية تماماً.
لا أحد ينشر صورته في أسوأ حالاته. لا أحد يبث لحظة شكّه بنفسه، دموع وحدته، أو ارتباكه أمام الحياة.
كل ما نراه هو "النسخة الأفضل": زاوية مدروسة، "فلتر" ناعم، خلفية مثالية، وكلمات تلمّع السرد حتى يبدو وكأنه مشهد من فيلم لا حياة.
لكنّ هذا "المحتوى المنتقى بعناية" لا يُخبرنا بالحقيقة، إنه لا يُخبرنا أن وراء الابتسامة جهداً، وربما حزناً. لا يُخبرنا أن الصورة التي حصدت آلاف الإعجابات قد كلفت صاحبها مئة محاولة، وكمية قلق لا تُرى.
فالمراهقون اليوم لا يعيشون فقط في واقعهم، بل في واقع آخر موازٍ تخلقه الـ"سوشيال ميديا"، مقارنة يومية مع "أجسام مثالية"، "علاقات حالمة"، "نجاحات خارقة"، و"أناقة لا تخطئ". في ظل هذه المعايير المصطنعة، يشعر كثيرون منهم أنهم لا يكفون، لا يُشبهون، لا يستحقون.
حيث تتضاعف الضغوط النفسية، ويتنامى الإحساس بالنقص، لا لأنهم أقلّ، بل لأنهم يقارنون أنفسهم بأشباحٍ لا وجود لها إلا خلف الشاشات.
توقّف الناس عن مشاركة الحقيقة، وصاروا يصمّمون حياتهم كما يُصمم منتَج. كل منشور هو حملة تسويق للذات، للنجاح، للجمال، للسعادة. وفي خضمّ هذا التسويق المستمر، ضاعت الحدود بين الواقع والخيال، بين "من أنا" و"ما أُظهره عني". إننا لا نرى الناس، بل نرى ما يريدوننا أن نراه. وهذا فارق جوهري.
الحل ليس الهروب من الـ"سوشيال ميديا"، بل التصالح معها. أن نتعلّم كيف نستخدمها دون أن نسمح لها أن تُستخدم ضدنا. أن نتابع من يُلهمنا لا من يُقلقنا. أن نفرّق بين الحقيقة والزيف، بين "المحتوى الجميل" و"الحياة الجميلة".فلا تُقارن بدايتك بوسط أحد.
اسأل نفسك: هل هذا المنشور يُفيدني أم يُستنزفني؟
اخرج للواقع: تكلّم، تحرّك، عِش.
دع دائرة تأثيرك تشمل أناساً يشبهونك، لا يُنافسونك.
الواقع الإنساني، فالجمال في النقص.
فلنتذكّر أن الحياة الحقيقية لا تحتاج "فلتر". وأن ما يجعلنا بشراً هو هشاشتنا، تعقيدنا، محاولاتنا، وسقوطنا وقيامنا مراراً. تابعوا من يذكّركم بذلك. من يُشارككم التجربة لا العرض، الطريق لا فقط النهاية.فلا تكن صورة جميلة تُعجب الناس، بل كن حياة حقيقية تُرضي نفسك.
كاتبة سعودية، نائب مدير الاتحاد العالمي" IWKBF"
لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا