أرى أنّ من العناية بِنفسكَ، ألاَّ تهتمَّ أصلاً إلى ما إذا كان هذا أو ذاك، مقتنعاً بِفلسفتك أو أفكاركَ، أو طريقتك أو أسلوبك، وتبعاً لذلك ليس عليكَ أنْ تُفسَّر له، إنّ ما أنتَ عليه من فلسفتك وأفكارك يرضيكَ تماماً، ولا من ضرورة في أنْ يرضيه ذلك، ولا تلزمه بما أنتَ عليه من فلسفتك، لأنّكَ تعرفُ لا يتوجّبُ عليك ذلك، بما قد اتّخذته من قرارك، واختيارك.
في رأيي أرى أنّ هذه الفلسفة إنّما تقوم أساساً على أقصى درجات تحقيق الكيان للذات، في سعيها المثابر إلى التدرَّب على مهارة الانعتاق من شرور الانقياد والتبعيّة، والخوف والتراجع، ومتى ما استطاعت الذات الفلسفيّة الارتكاز على جهدها الفكريّ، لنيل ثقتها بنفسها، لا تعود إلى أنْ تكون متاحة لأغلال الاستحواذ، والهيمنة والتسلّط، لأنّها هنا في هذا الموقف التفكيريّ من ثقتها بصلابة استقلاليّتها، قادرةٌ على تحقيق وجودها الكيانيّ، بما يجعلها فاعلة حقيقيّة في طور التقدَّم والانجاز، والمبادرة، والإبداع والتفنّن.
وأحسبُ أنّ مَن يتمتّع بمهارة الانعتاق، إنّما هو في الأساس قد تعلّم مسبقاً أنْ يميلَ واعياً إلى تنمية نزعته العقليّة في الاستقلاليّة، وأنْ يعزّز ثقته الكاملة بقدرتهِ على استحضار النزعة الخلاّقة في كلّ ما من شأنهِ أنْ يدفعه عاشقاً للحريّة في تجلّيات الإبداع الإنسانيّ، وللجمال في إبداعات الحريّة. فالغارقون في أوهامهم لا يتحسَّسون آثار الأصفاد على عقولهم، فقط يسيرون بها وتسير بهم، وحتّى من دون أنْ يتعرَّفوا أصلاً على ملامح عقولهم التي اندثرت تحت أكوام الأوهام، والبرمجة التلقينيّة، ولذلك مَن يخوض معركة الحريّة يدركُ حقّه كاملاً في الحياة، في الاختلاف والقرار والاختيار، وهوَ حقّه الإنساني الذي يجده يتجلّى ناصعاً في أسلوبه وطريقته، وحقّه في الانعتاق من كلّ ما يسلبه عقله وفكره، ويملكُ في المستوى نفسه.
في الانعتاق يتخلّق الإنسان جديداً، لأنّه في حركةٍ دائمة، بحثاً عن جديد ذاته في كلّ انشغالاتها المعرفيّة، وهذا يعني أنّه في الجديد من ذاته، قد اكتشفَ الجوهر من معنى أنْ يكونَ حرَّاً في اختيار طريقته وأسلوبه، إنّه في كلّ هذا إنّما يختار جديده بوعيّ، لأنّه قد اكتشفَ أصل الحريّة في ذاته.
أنْ يخلق الإنسان حريّته في عقله، وأنْ يجد في عقله اكتشافاً لحريّتهِ، وأنْ يتخلّق فيهما إنساناً قادراً على تحقيق استقلاليّته الفكريّة التي يرى فيها المعنى من كونهِ خالقاً لطريقته، وأسلوبه، وتفكيره.
والذات في مخاض الانعتاق، إنّما تعملُ على أنْ تكون في المستوى الذي تستطيع من خلاله، أنْ تدركَ قيمة التعاطي الخلاّق والحرّ مع طريقتها المستقلّة، لأنّ ذلك يجعلها تستحدث في كلّ مرَّةٍ معنىً جديداً لفلسفتها في الانعتاق، كونها تبرع في الحفاظ على أنْ تبقى في مستويات الإبداع.
إنّها هنا، أيّ الذات، تتواصل بشغفٍ وتنوّرٍ مع ما يبعثها خلاّقة، وناطقة، ومستفسرة، ومتسائلة مع مستوياتها في الإبداع والتجديد والتألّق.
في الانعتاق، ألف حياةٍ وحياة، تزهو ألقاً في رحابة الحريّة، وفي كلّ حياةٍ هناك حياةٌ من الأفكار، والتخلّقات والتطلّعات، والمبادرات، وكلها ترنو إلى تحقيق الفعل التواصليّ مع الذات في تحقيق وجودها الفكريّ، والمعرفيّ والإبداعيّ.
من أجل أنْ تخلقَ ذلك التواصل المثمر مع انعتاقاتها، للتحرر من كلّ الأثقال، والترسُّبات، والسدود والتراجعات، وهو التعالق نفسه الذي يمنح الذات قدرتها على التواصل مع كلّ ما من شأنهِ أنْ يرسَّخ فيها إمكانات التحقّق من اقتناعاتها بوجودها الفعليّ على قيد الانعتاق.
ستدركُ أنّكَ تتواصل جيّداً مع انعتاقكَ المبدع، كلّما سطعتْ في عقلكَ أجمل المعاني الباعثة على إدراكِ وجودك، وأنتَ من حيث أنّكَ في خضمّ مواجهاتكَ الفكريّة الحاسمة ضدَّ الأفكار البليدة، والخانقة، والقامعة والمتسلّطة، تتحصّن بمعانيكَ وأفكاركَ وتبصَّراتك واستقلاليّتك، وهيَ تدفعكَ دوماً إلى الوعيّ بشرور التردَّد أو التراجع، أو الانكماش.
إنّه فهمكَ وإدراكك الذي يحرّركَ من رواسبكَ وأثقالك وسدودك، وتعرفُ في الوقتِ ذاته من إنّك تجني ثمار انعتاقك في حصاد الحريّة، ولن تتوقّف عند هذا الحد، بل تسعى إلى جنيّ الفكرة من وراء شغفكَ بعقلك الطليق، وهيَ تأخذكَ توّاقاً إلى اكتشاف معالمكَ المنيرة في طريق الانعتاق، لأنّك هنا تحسبُ أنّكَ تولد جديداً مع كلّ فكرةٍ وضّاءة، ترشدكَ واعياً إلى ذاتك الحرَّة في متابعتها الحثيثة لأفكارها، وتصوّراتها، وانشغالاتها، وإبداعاتها.
ولكن هل يكفي أنْ تكون حرَّاً في انعتاقك الخلاّق؟ قد يكون ذلك كافياً للدرجةِ التي تحسبُ فيها أنّك تمضي في انعتاقكَ، مستمتعاً بما لديك من حريّة القرار، وجمال الاختيار، ووعيّ الإرادة، وما إنْ تشغفَ بانعتاقك، ستشغفُ بطريقتك التي تريد منها أنْ تضعكَ حرَّاً في تفكيرك، وعقلك.
شغوفاً بقدرتكَ على التفنّن، والإبداع، والتجاوز والمبادرة، وستملكُ تبعاً لذلك ثقة الاشتهاء الكاملة في انعتاقك، من حيث أنّه خلاصكَ الأجمل في اختياراتك، وتفكّراتك، لأنّك هنا ستسأل نفسك دوماً: كيف عليه أنْ يكون انعتاقك؟ ستجد أنّ في سؤالكَ هذا، تكمن اجابتك التي تراها ماثلةً ببصيرةٍ ووعيّ في كلّ ما يستطيع انعتاقكَ أنْ يُبقيكَ مبدعاً وجريئاً، ومتسائلاً ومتجاوزاً، ومبادراً وبارعاً، ومفكّراً ومتفلسفاً.
وقد يكون شعوركَ في قدرتكَ على تجاوز الانغلاقات، والتراجعات والأفكار السائدة، الهادمة للعقل والتفكير، يساوي ما في انعتاقك من شعورٍ غامرٍ بتجربتكَ المثيرة في انشغالات السؤال والفكرة، فالتجربة في انعتاقك تعني ممارسة الانسجام مع ذاتكَ المتحرَّرة من قيود التفسيرات الشموليّة، فلا وجود في انعتاقك للحياة المقيّدة بأغلال الأفكار الجامدة، والشموليّة واليقينيّة، ولذلك تبقى وفيّاً لانعتاقك، لأنّه يحرَّرك من كلّ تلك السدود، والانغلاقات، وترى الحياة من خلاله، حرَّةً تنسابُ لامعةً في أجمل التنوّعات، والألوان، والآفاق والمسارات، تبتكرُ بشغفٍ طريقتك المتنوّعة في التعالق مع طبيعتك الفكريّة الذاتيّة، ومع انطلاقاتكَ الفكريّة في ترسيخ ارتباطك الوثيق بفعل الانعتاق.
كاتب كويتي
[email protected]