هناك تشابه كبير في الإدارة السياسية وإدارة الحرب. فلا يكفي أن تملك السلاح، ولا حتى القدرة على استخدامه متى شئت وعلى من شئت؛ بل لا بد من قراءة دقيقة للميدان، وتحديد الحلفاء وتقريبهم، وإفراز الخصوم، وفهم خريطة المصالح المعقّدة. فلا تُطلق رصاصة بلا غطاء دعائي يبرّرها، ولا تُخاض معركة دون رأي عام يضمن استمرارها.
الأمر نفسه في السياسة، فالغلبة فيها لمن يُتقن إدارة الظلال المخفية كما يُتقن تسويق النور الساطع. ومن لا يُجيد هذا الفن، أي الموازنة بين اتخاذ القرار والتأثير من وراء الستار، غالباً ما يقع في فخ التبسيط المفرط لفهم الدولة، ويظن أنه قادر وحده على إعادة تشكيلها.
وهذا النمط من الإخفاق تكرر في أماكن عدّة، من واشنطن إلى القاهرة، فإسلام آباد، وربما أبعد من ذلك.
لم يكن إيلون ماسك رئيساً لدولة ولا زعيم حزب، لكنه تحوّل، بفضل ثروته الهائلة، وتأثيره التكنولوجي والإعلامي، وبدعم موقعه الاستثنائي في إدارة ترامب، إلى صاحب نفوذ يوازي بعض رؤساء الدول، وإن لم يحمل صفة رسمية.
ومن هذا المنطلق، فإن فشله في التأثير على القرار السياسي الأميركي، وعدم قدرته على تحقيق أهدافه المعلنة، لا يقل أهمية عن إخفاقات رؤساء وصلوا فعلياً إلى سدة الحكم.
نجاح ماسك في مجالات عدة، جعله يُقارن برواد التاريخ الصناعي. لكنه حين حاول نقل منطقه الإداري إلى ساحة السياسة، اصطدم بجدار غير مرئي من التقاليد المؤسسية، والعقول التي تُدير المشهد من خلف الستار، فكان مصيره التهميش الهادئ.
وهنا، يمكن عقد مقارنة تأملية لا تطابقية، بين ماسك من جهة، وكل من محمد مرسي وعمران خان من جهة أخرى. لا من باب المساواة في الظروف أو الشخصيات، بل في نمط الاصطدام بجهاز الدولة، وسوء تقدير طبيعة الفاعلين الحقيقيين في الحكم، وتعاظم الثقة الذاتية في القدرة على فرض ما يريده كلٌّ منهم.
الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، حين وصل إلى الحكم بعد ثورة شعبية، دخل قصر الرئاسة بسلطة قانونية، وانتخابية، وشرعية دولية.
وعندما بدأ ممارسة صلاحياته، تبيّن له بعد فوات الأوان أن الحرس القديم لم يكن مستعداً لتسلُّم القيادة من خارج البنية العميقة للدولة، وأنهم لا يزالون يمسكون بمفاتيح القوة. كان يحمل مزيجاً من الطيبة السياسية وسوء تقدير لعمق الدولة، في وقتٍ كان يتطلب دهاءً مركّباً، ويقظة مضاعفة.
أما عمران خان، في السياق الباكستاني، فقد صعد بدعم من المؤسسة العسكرية، التي رأت فيه، آنذاك، خياراً مدنياً مقبولاً يحظى بشعبية، ويُحسن مخاطبة الشارع. فمهد له الجيش الطريق في انتخابات 2018، عبر تهميش خصومه السياسيين، وضبط المشهد الإعلامي لمصلحته.
لكن ما لبث أن سعى إلى تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية، وتوسيع سلطته كرئيس وزراء، دون أن يحسب بدقة موازين القوى التي أوصلته. بدأ يرفض التدخل في قراراته، وهاجم قادة الجيش علناً، واعتقد أن شعبيته المتصاعدة كافية لكسر التحالفات القديمة. فوجد نفسه معزولًا، بعدما سحب الجيش دعمه، ومهّد الطريق لإسقاط حكومته في عام 2022.
وإيلون ماسك، من جهته، تصرف كأنه قادر على إدخال أدوات ريادة الأعمال إلى قلب السياسة، لكنه تجاهل أن السياسة الأميركية مثل غيرها، تُدار عبر توازنات باردة، تحكمها شبكات من المصالح، والخبرات، والعلاقات المؤسسية، فتمت مقاومته دون إعلان حرب، وتآكل نفوذه بهدوء.
القاسم المشترك بين الحالات الثلاث ليس الموقع أو درجة السلطة، بل الافتراض الخاطئ بأن الشرعية أو الصلاحيات وحدها تكفي للنجاح في ميدانٍ تحكمه قوى لا تظهر في العلن، وتمتلك القدرة على التهميش دون ضجيج.
فهذا النمط من اصطدام النزعة الفردية بمنطق الدولة يتكرّر في تجارب كثيرة حول العالم؛ حيث يدخل بعض المسؤولين مناصبهم بأفكار طموحة وأحلام كبيرة، لكنهم يصطدمون بواقع لا يمنحهم فرصة التنفيذ، ليس لضعف في رغبتهم أو كفاءتهم، بل لأنهم يفتقرون إلى الغطاء، العلني أو الخفي، الذي يمنح الأفكار الحياة. من يُعارضهم ظاهراً قد يُربكهم، لكن من يمنع عنهم الدعم من وراء الستار هو من يُفشل تجربتهم في صمت.
الدرس هنا لا يخص إيلون ماسك تحديداً، بل يتعلق بجوهر التجربة التي مرّ بها، والتي مرّ بها غيره ممن ظنّوا أن امتلاك الصلاحيات، يكفي لإعادة تشكيل النظام. فإدارة الدولة لم تكن يوماً بيد من يملك الصلاحيات فقط؛ إذ هي في جوهرها بيد من يملك النفوذ أيضاً.
فالنفوذ يسبق الصلاحيات في الأهمية، ويستطيع التأثير عليها، أما الصلاحيات الرسمية فتمكّن صاحبها من إصدار القرارات، لكنها لا تضمن له النجاح ما لم تُدعَم بشبكة من العلاقات، والتحالفات، والغطاء غير المعلن.
ومن لا يفهم هذا التوازن، ينهار تحت وهم أن القرار بيده، بينما القرار الحقيقي في يد من لا يظهرون أصلًا.
وفي عالم تُسيّره توازنات دقيقة وقوى هادئة، فإن من لا يرى ما خلف الستار، غالباً ما يُسدل عليه الستار أمام الجمهور.
@Abdulaziz_anjri