الجميع يعلَم أنّ لبنان، اليوم، يواجه مصيرَه، فإمّا أن يقتنص الفرصة اليتيمة السّانحة، وإمّا أن يُختَم على مستقبله بالشّمع الأحمر، وهذه جريمة موصوفة سوف يقتصّ التاريخ مِمَّن يقترفها.
إنّ الأزمة التي يرزح الوطن تحت وطأتها، ليست حديثة العهد، بل ترقى الى عُقود، وتَعاقب الانتدابات، ووضع اليد الغريبة على قرار السّلطة، ما سدَّ منافذ التّلاقي الوطني بين شرائح النّسيج، وجعل البلاد دميةً مُستباحة.
لكن، في مقابل تهشيم صورة الدولة، عن قصد، وتفسيخ البلاد الى بُقَع، وإذا كان الولاء له يطغى على كلّ رابطة، فإلزاميّةُ تحصينه بعودة الدولة القادرة، مسألةٌ تتنزّل في مصاف الأهميّة المُطلقة، لتشكّل المعطى الثّابت والنّهائي، وهي مسألة ليست عِرضةً للمراجعة والنّقد.
إنّ المطالبة الحثيثة بنزع السّلاح غير الشّرعي من الجميع، غرباء وبلديّين، لا تحتمل سجالاً عقيماً، فإمّا أن يكون الموقف منحازاً الى مبدأ الولاء في الانتماء، يعزّز الكيان الأمني والسياسي للدولة، ومؤسّساتها، ووحدة شرعيّتها، واستقلال قرارها، وإمّا أن يتبخّر حقّ البلاد بالأمان، والسّلام، ويطفو التمترس خلف إيديولوجيا السّلاح والفوضى والتّرهيب، بفعل عقيدة مستوردة من حفريّات الأعراق البائدة، ما يجعل الوطن حيثيّة منتهيةَ الصّلاحية، وشعبَه ممسوكاً بفوّهة القمع والاستقواء، يتحسّس رقبتَه ليتأكد من استمرار وجودها فوق كتفَيه.
إنّنا، اليوم، نواجه حرباً ليست باردة، وُلِدَت من رحم الإرهاب، إنها حرب تزكّي استمرار الانحطاط في البلد، وتعزله عن محيطة العربي، وتريد أن ترسّخ انتدابه، بل استعماره، من مرجعيّة إقليميّة تستخدمه ورقةً فوق طاولة المفاوضات، لتحقّق المكاسب، على أطلاله.
إنّ هذا السّلوك القبيح، بل الجريمة الموصوفة، التي يظنّ مقترفُها أنّها تصدر عن حقّ له بالتصرّف بالوطن، ينبغي مواجهتها بموقف جريء تتبنّاه كلّ شرائح النسيج الوطني، فالاستمرار في إدراج البلاد على لائحة الإرهاب، والتسيّب، والفلتان الأمني، يشكّل، وبوضوح، مؤامرةً لزعزعة النّظام مقدّمةً لسقوطه، وذلك يقتضي، ومن دون إبطاء، مواجهة الفكر التّحريضيّ الدّاعي إليه، أياً يكن مرجعه، فالحوار النّاعم مع هذا المرجع كمَن يغسل النّار بالزّيت، والتجربة المتكرّرة، في الماضي، برهان أكيد.
إنّ المعضلة الأكثر بروزاً وخطورةً هي مسألة السّلاح خارج شرعية الدولة التي لمّا تزل، حتى السّاعة، شبه دولة، أو دولة نظريّة، ترضخ لألف زاروب لتضييع مطلبٍ شعبي، وإقليمي، وعربيّ، ودولي، بل فرصة يتيمة، للانتقال بلبنان من حقل ألغام مُفَخَّخ، ومن عصر الدويلة المستقوية بالغوغاء الذي تفرضه ملاذاً وسلطةً وكياناً، الى دولة حضاريّة، بالمفهوم الحديث، تنعم بالسّلم والحريّة، إسوةً بالمجتمعات الرّاقية.
وما على لبنان الرّسمي والشّعبي، على السّواء، إلّا الإفادة من الخطوات النوعيّة التي دفعت ببلدان الخليج العربي الى مصاف التقدّم، فساد التطور في مجالات الحياة كافةً، بنتيجة الوعي، والالتزام بالمبادئ الساميّة، اللّذَين انتهجهما المسؤولون في هذه الدول، ما جعلها تنتقل إلى دول حديثة، ذات بنية اقتصادية واجتماعية متقدّمة، وأصبحت مراكز حضرية عالمية.
إنّ ما يجري من تفاوض في قضيّة حصرية السّلاح، ليس مادة مسليّة، بل يندرج في إطار الدراما الوطنيّة، ويعمل على استمرار مرحلة ما قبل الدولة، التي كانت سائدة خلال العهود السّابقة، غير المأسوف عليها.
وإذا كانت السلطة هي المسؤول الأول عن الأمان في الوطن، فالرِّضا عن تسويف الحلّ، والرّهان على الوقت، والإمعان في الملاطفة، تعكس غياب الجديّة في مقاربة موضوع السّلاح، وهو موضوعٌ مُدان كونَه يتعدّى على تَوق الشّعب الى الخلاص، ويمسك بزمام القرار، ويمنع استرجاع الأمن المنهوب ما يخضُّ طمأنينة الناس.
إنّ الساحة الداخلية تشهد مطالبة بتسليح الجيش اللبناني ليصبح قادراً على التصدّي للعدوان الإسرائيلي، لكنّ ما وراء الأكمة يخفي حقيقة لم يعد يمرّ تمويهها.
فهذه المسألة ينقسم فيها اللبنانيّون الى غالبية تعتبرها أولوية مطلقة، وأقليّة مستقوية تجهد لإجهاضها بالتّسويف، والتّمييع، ورفض إمداد الجيش بالأسلحة الحديثة، ليسهل على المستقوين في مشروع الدّويلة الانقضاض على مشروع الدولة، فتبقى الساحة اللبنانية ضعيفة مُنتهكة، تُصفّى فيها الحسابات الإقليمية، وتدفع، بالتّجارب العبثيّة، ثمناً باهظاً في البشر والحجر.
إننا لا نريد أن يتحوّل لبنان كبش محرقة، فالنّاس القلقون لم يعد تسترعي انتباههم تصريحات ليس لها مذاقٌ وطني، فالشّعب يدقّ جرس الإنذار، ويطالب باستعادة الحكم المسلوب من المحميّات المسلّحة، وعصابات المستقوين، الأصليّين أوالطّارئين، ليعود لبنان موطن أمان وسلام.
كاتب وأستاذ جامعي لبناني