الجمعة 13 يونيو 2025
36°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
ما أبشع أن تكون ضعيفاً مغفلاً
play icon
كل الآراء

ما أبشع أن تكون ضعيفاً مغفلاً

Time
الأربعاء 11 يونيو 2025
View
190
محمد الفوزان
قصص إسلامية

لا تزال قصص الكاتب الطبيب الروسي تشيكوف( 1860- 1904) تحتفظ بسحرها ونضارتها وجمالها المدهش.

يتحدث هو عن نفسه فيقول: لقد عشت طفولة شقية، إذ أن والدي كان فظ القلب، يضربني ويضرب إخوتي وأمي كل يوم تقريباً، لم استطع أن أسامح أبي في أي يوم من الأيام، فقد كان يضربني بالعصا ضرباً مبرحاً، عندما كنت صغيراً.

إن الاستبداد والأكاذيب دمرت شباب أمي، كما دمرت طفولتنا، بحيث أني أحس بالرعب والغثيان حين أفكر فيها واتذكرها.

إن الاستبداد سلوك إجرامي إلى أبعد حد.

وكتب تشيكوف ايضا: في يوم من الأيام دعوت الى غرفة مكتبي مربية أولادي يوليا لكي أدفع لها حسابها، قلت لها إجلسي يا يوليا، هيا نتحاسب، أنت في الغالب بحاجة الى النقود، ولكنك خجولة الى درجة أنك لن تطلبيها بنفسك، حسناً لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلاً في الشهر.

قالت: أربعين، قلت: كلا، ثلاثين، هذا عندي مسجل، كنت أدفع دائماً للمربيات ثلاثين روبلاً، حسناً، لقد عملت لدينا شهرين، قالت: شهرين وخمسة أيام، قلت: شهرين بالضبط، هكذا مسجل عندي، إذا تستحقين ستين روبلاً، تخصم منها تسعة أيام أحاد، فأنت لم تعلّمي ابني كوليا في أيام الآحاد، بل كنت تتنزهين معه فقط، ثم ثلاثة أيام أعياد، تضرج وجه يوليا، وعبثت أصابعها بأهداب الفستان، ولكن لم تنبس بكلمة.

ثم قلت: تخصم ثلاثة أعياد، إذاً المجموع سيكون اثني عشر روبلاً، وكان ابني كوليا مريضاً أربعة أيام، ولم تكن دروس، وثلاثة أيام كانت أسنانك تؤلمك، فسمحت لك زوجتي بعدم التدريس بعد الغداء، إذا اثنا عشر زائد سبعة = تسعة عشر، تخصم، يصبح الاجمالي واحد وأربعين روبلاً، مضبوط؟

احمرت عينا يوليا وامتلأت بالدموع، وارتعش ذقنها، وسعلت بعصبية، لكن لم تنبس بكلمة.

قلت: قبيل رأس السنة كسرت فنجاناً وطبقاً، تخصم روبلان... الفنجان أغلى من ذلك، فهو موروث، لكن فليسامحك الله: علينا العوض، وبسبب تقصيرك تسلق ابني كوليا الشجرة ومزق سترته، نخصم عشرة، وبسبب تقصيرك ايضاً سرقت الخادمة حذاء ابنتي فاريا، لقد كان من واجبك أن ترعي كل شيء؛ فأنت تتقاضين مرتباً، وهكذا نخصم أيضاً خمسة، وفي 10 يناير أخذت مني عشرة روبلات.

قالت يوليا: لم آخذ، قلت لها: لكن ذلك مسجل عندي، قالت: حسناً، ليكن.

واصلتُ: من واحد واربعين نخصم سبعة وعشرين، الباقي أربعة عشر، امتلأت عيناها بالدموع، وظهرت حبات العرق على انفها الجميل، ياللفتاة المسكينة!

قالت بصوت متهدج: أخذت مرة واحدة... أخذت من حرمكم ثلاثة روبلات، لم أخذ غيرها، قلت: حقاً؟ انظري، وأنا لم أسجل ذلك! نخصم من الأربعة عشر ثلاثة، الباقي أحد عشر، ها هي نقودك يا عزيزتي (ثلاثة... ثلاثة... ثلاثة... واحد، واحد) تفضلي، ومددت لها أحد عشر روبلاً، فتناولتها ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة وهمست: شكراً.

هنا انتفضت واقفاً وأخذت أروح وأجيء في الغرفة، واستولى عليها الغضب؛ وسألتها: شكراً على ماذا؟ قالت: على النقود، قلت: لكني نهبتك وسلبتك لقد سرقت منك؛ فعلام تقولين شكراً؟

قالت: في أماكن أخرى لم يعطوني شيئاً.

قلت: لم يعطوك. أليس هذا غريباً؟ لقد مزحت معك، لقنتك درساً قاسياً، سأعطيك نقودك الثمانين روبلاً كلها، لكن هل يمكن أن تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة،لماذا لا تحتجين، لماذا تسكتين، هل يمكن في هذه الدنيا ألاّ تكوني حادة الانياب، هل يمكن أن تكوني مغفلة إلى هذه الدرجة؟

ابتسمت بعجز، فقرأت على وجهها: يمكن.

سألتها الصفح عن هذا الدرس القاسي وسلمتها بدهشتها البالغة الثمانين روبلاً كلها، فشكرتني بخجل وخرجت، تطلعت في أثرها وفكرت: ما أبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدنيا.

هي عبارة اطلقها تشيكوف في القرن التاسع عشر، ولا يزال يتردد صداها في كل مكان وزمان، ما دام هناك ظلم، وحق مستلب على وجه المعمورة، وتعطي درسا مهما في الحقوق، فان لم يعطك أحد حقك، يأتي دورك الطبيعي في أن تنتزع هذا الحق، وإن سكت تسحق.

"وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"

الاسلام يرفض الظلم، ويحذر الظالمين ويعدهم بالعذاب والخزي، يحمل من يتبعهم نصيبه من المسؤولية، عما يفعله هؤلاء الظالمون، وما يقترفونه من أعمال تخالف شرع الله ومصلحة الناس.

الضعف يصنع الظلمة، ويمنحهم القوة والغرور والاستخفاف بالناس، "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْما فَاسِقِينَ"(الزخرف).

إمام وخطيب

[email protected]

آخر الأخبار