ينبغي، في البداية، العودة الى تاريخيّة طرح مشروع الشّرق الأوسط الجديد، الذي بدأ بعد الحرب على العراق، وكان الهدف منه تعميم مبدأ الديمقراطية في المنطقة، ومحاربة الإرهاب من خلال إدخال إصلاحات جذريّة على الأنظمة السياسية والاجتماعية في الدُوَل القائمة، وإعادة رسم خارطة النّفوذ، والتي تسعى الى مواجهة القوى المناوئة للمحور الغربي التي تقوده الولايات المتّحدة الأميركية. لكنّ وجهات النّظر الإقليمية تجاه هذا الطّرح اختلفت بين المحاور، ففي حين دعا محورٌ مدعوم من أميركا الى خلق تعاون اقتصادي بين بلدان المنطقة كافةً، خصوصاً بين إسرائيل والعرب، ما يؤدّي، بحسبها، الى سلام إقليمي يخفّف من حدّة الصّراعات، ويوفّر فرصة أكيدة لتحقيق المصالح الاقتصادية للمنطقة، عمد محورٌ إلى ممانعة هذا الطّرح مستغلاً شمّاعة هي القضية الفلسطينية، وداعياً الى مواجهة مستمرّة لإسرائيل التي غصبت الشّعب الفلسطيني حقّه في أرضه، ولا تزال تقف حجر عثرة في وجه مشروع الدّولتَين.
إنّ مشروع الشّرق الأوسط الجديد، والذي يسعى إلى إعادة ترتيب المنطقة، مدعوماً من دول الخليج التي أصبحت محور توازنٍ ذكيّ اقتصادي وأمنيّ، من شأنه أن يُقَفِّز منطقة الشّرق خطواتٍ في مسار التطوّر التكنولوجي، واستثمار الطّاقات الطبيعيّة، وإيجاد بدائل عن الاعتماد على إنتاج النّفط ومشتقّاته، مثل الذّهاب الى اعتماد الطّاقة النّظيفة، بالإضافة الى الانفتاح على القارات بالرّبط التّجاري، والتّعاون الاقتصادي، وتحفيز الاستثمارات، والتحوّل الى مراكز جذب مالية دوليّة.
ممّا لا شكّ فيه، أنّ معارضة هذا المشروع قد تولّاها محور الممانعة، بقيادة إيران، وهي لاعبٌ مؤدلَجٌ معقَّد، يخشى تهديد نفوذه الجيوسياسي، كما أنها ناشطة في إثارة النّزاعات والحروب من خلال سيطرة أذرعها المسلّحة بشكل غير شرعيّ، على بعض العواصم العربيّة، ما هزَّ الاستقرار في المنطقة بأسرها. وقد جرَّ هذا الموقف على إيران عقوبات دولية، وعزلة عن الاستثمارات الخارجيّة، وعن النّظام المالي العالمي، وبدلاً من أن تواكب إيران، بما لديها من احتياط عارم في النّفط والغاز، مشروع الشّرق الأوسط الجديد، سعت الى عقد شراكات موازية مع روسيا والصّين، لتفعيل تجارتها المهرَّبة، ما يمكن أن يؤمّن لها مدخولاً يسدّ، جزئياً، حاجتها الإنفاقية.
لكنّ الباب لم يُقفَل بالكامل أمام إيران، فدول الخليج العربي حافظت على قنوات الاتّصال مع طهران، لحض القيادة الإيرانية على دخول المفاوضات في مسألة ملفّها النَّووي، علّ ذلك يؤدّي لإعادة الاستقرار الى المنطقة.
لكنّ استمرار إيران في تخصيب الأورانيوم لامتلاك القدرة على تصنيع رؤوس نوويّة، والتي تعارضه غالبيةُ دول العالَم، والتي اعتبرته إسرائيل خطراً داهماً على وجودها، ويضعها أمام معادلة صعبة، على المستوى الستراتيجي، اشعال حرب من أهدافها شلّ قدرة إيران على امتلاك القنبلة، وربّما إسقاط نظام الملالي الى غير رجعة.
يفتَرَض بالحرب الجارية أن تعيد إيران إلى طاولة المفاوضات مع أميركا، ولكن بشروط الرئيس ترامب، أي تقييد برنامج التّخصيب دون تجاوز العتبة النوويّة المحدَّدة أي 2 في المئة فقط، وعدم إنتاج صواريخ بالستية يمكن أن تحمل رؤوساً نوويّة، وجعل مراقبة التّخصيب أكثر صَرامة، وتراجع التدخّل الإيراني في شؤون الدّول الشرق أوسطية، وعدم الوقوف في وجه تطبيع البلدان العربية مع اسرائيل.
إنّ مجريات الأحداث الحربية غير التقليدية من شأنها أن تقودنا الى طرح السؤال الحتميّ: هل ترضى إيران بالعودة الى طاولة المفاوضات، وتوقّع الاتّفاق النووي بشروط الرئيس ترامب، ما تعتبره اتّفاق ذلّ واستسلام، أم تواصل العمليات الحربية لتغيير النتائج لصالحها؟ لمّا كانت الثّقة معدومة بين الطّرفَين، من الصّعوبة أن تقبل إيران بتوقيع اتّفاق من صنع أميركا، لكنّها تقبل باتّفاق موقّت غير مُلزِم، أي بصفقة تؤمّن لها ضمانات ومكاسب، هي رفع العقوبات، والإبقاء على برنامجها النووي والصّاروخي، وعدم المساس بنفوذها الإقليمي... وهذا ما لا يقبل به، بتاتاً، الرئيس ترامب، ومعه إسرائيل. واستناداً، وأمام تعقيد المشهد، هل تسير المنطقة نحو ما يُسَمّى إدارة التوتّر، أي منع الانفجار الكامل الذي يمكن أن يؤدّي الى مواجهات عسكرية دولية، وكيف يكون وقع ذلك على مشروع الشّرق الأوسط العتيد، أي مشروع السّلام في المنطقة؟
كاتب - استاذ جامعي لبناني