في ظل المشهد الإقليمي المتوتر، حيث تتقاطع السياسة بالإعلام، والحرب بالمعلومة، يصبح السؤال الجوهري والمحوري: من الذي يُمسك زمام الرواية، ومن يُحسن صناعة الوعي في زمن الأزمة والفتنة؟
إننا لا نعيش اليوم حرباً تقليدية بالآليات النمطية التي درجنا عليها، إنما معركة مستعرة على "السردية"، في زمن الحروب الهجينة، التي تمثل فيها المعلومة قوة لا تقل ضراوة في الميدان عن كل أدوات القوى النارية.
في مثل هذا السياق يتعزز الإعلام في منظومة الأمن الوطني والاستقرار المجتمعي، ويتحول إلى شريكٍ ستراتيجي، وضرورة وجودية للدولة الحديثة، يتحلل من كونه ترفاً معرفياً أو مهنةً تكميلية، ذلك أن كل تأخر في المعلومة يورث فراغاً يملؤه التضليل، وكل ارتباك في الخطاب يُتيح فرصة لتمدد الإشاعة.
لقد كشفت التجارب، من جائحة "كورونا" حتى الأزمات الجيوسياسية المتتالية، أن المتحدث الرسمي لا يمثل "وجه الدولة الإعلامي" فقط، بل هو حارس للطمأنينة الوطنية.
تشير دراسات دولية إلى أن ظهور المتحدث الرسمي خلال الساعات الست الأولى من الأزمة يقلل من انتشار الشائعات بنسبة تصل إلى 49 في المئة، بالإضافة إلى كونه يُعزز الثقة المؤسسية لدى الجمهور، وهو ما شهدناه جلياً في التجربة الكويتية الناجحة خلال أزمة "كوفيد19"، وحاز الناطق الإعلامي في الكويت مكانة متقدمة في المتابعة على دول المنطقة.
وفي مقابل الإعلام الرسمي، برزت منصات التواصل الاجتماعي كأداة فاعلة في تسريع نقل المعلومة، وتضخيم الإشاعة معاً، وهو ما تأكد في تقرير صدر عن الـ"يونسكو"، وأن 67 في المئة من الأخبار الكاذبة في الأزمات تنتشر عبر هذه المنصات، ما يستدعي، منا كإعلاميين ومؤسسات ومجتمع، تطوير مناعة إعلامية تكرس الطمأنينة، وتنزع الرهاب ورواج الهلع والقلق، كنتيجة للتضليل أو التعمية.
إننا نحتاج إلى ما يمكن وصفه بـ"تعاضد إعلامي" وطني يتشارك فيه المثلث الذهبي من قطاع عام وخاص، ومجتمع مدني ينتهي إلى ثلاثية واضحة:
1- التمكين المؤسسي للإعلاميين والمتحدثين الرسميين.
2-التنسيق بين الجهات الحكومية في الخطاب العام.
3- الشراكة المجتمعية التي تُدرك أن التوعية والشفافية والمبادرة وسيلتنا الأكثر نجاعة في محاربة الشائعات.
لعل من بين الخطوات الملفتة في هذا الإطار إعلان معالي وزير الإعلام، عبدالرحمن المطيري، دعم الوزارة للمتحدثين الرسميين، واتصاله المباشر في لقائه الموسع الذي تكلل قبل أيام تعريفاً وتحفيزاً وتعليقاً، أجدها خطوة محورية على طريق تكامل الأدوار، وتعزيز ثقافة المعلومة المسؤولة، لا سيما في سياقات إقليمية تزداد تدحرجاً، حيث أصبحت المعلومة أداة لا مجرد محتوى خبري.
ولأن الشائعة لا تعيش في بيئة شفافة، بل في ظل تجهيل، أو تأويل، فإن الثقافة المجتمعية السائدة تُمثّل خط الدفاع الأول، فكلما ارتفع منسوب الوعي تراجعت الشائعات، وكلما تكرّست قيم التحقق والتدقيق لما يُنشر استقر المزاج العام، وازدهر منسوب الثقة في الدولة ومؤسساتها.
إن الحديث عن الإعلام لا يكتمل دون استحضار أفق الاستدامة، فكما أن التنمية تحتاج إلى موارد دائمة فإن الاستقرار يحتاج إلى وعي دائم، والإعلام المستدام هو ذلك الذي لا يكتفي بردّ الفعل بل يُبادر بالفعل... لا يُعادي الوسائل الجديدة، بل يُحسن توظيفها ولا يَصنع الهلع بل يَبني السكينة.
في زمن الحرب، قد تشتعل الجبهات وتُغلق المطارات، لكن تبقى جبهة الوعي مفتوحة، ومسؤولية الحفاظ عليها هي مهمة الجميع، دولةً ومجتمعًا وأفرادًا، لذلك علينا أن نُدرك أن كل تغريدة أو تصريح، وكل مقطع متداول أو تعليق ليس مجرد حدث عابر، بل لبنة في بناء السلم أو إثخان الأزمات والمواجهات؟
علينا ألا نُحارب الشائعات فقط، بل إرساء منظومة وعي تفاعلية تشاركية تحفظ الأمن، وتبني الثقة وتحمي الإنسان.
خبير استدامة
[email protected]