كنت في الصحراء وحدي، والشمس تميل إلى الغروب، والسماء ملبدة بغيوم داكنة، لا يرى منها إلا شقوق ضوء تنزلق كالسيوف الصامتة على رمالٍ هادئة. الهواء لا يتحرك إلا ببطء، كأنه يهاب أن يوقظ شيئاً نائماً منذ زمن.
جلست أمام "المشب"، والجمر يتوهّج نابضاً في عالمٍ متجمد. على النار إبريق شايٍ يهمس، ودلة قهوة تقاوم الغليان.
كنت وحدي، لكن الوحدة لم تكن قاسية، كانت فقط صافية.
وفجأة، انشقّ السكون، سمعت صوتاً يأتي من بين الوديان. لا أعرف من أين بالضبط، ولا كيف اجتاز المسافة.
لكنه ناداني، نبرة مألوفة، لا تخيف، فيها شيء من الماضي، من الحنين. التفتُّ، لم أجد أحداً، لكن الصوت عاد، أقرب هذه المرة، أدفأ.
تذكّرت حينها عبارة أمي لي وأنا يافع "كن مع الله ولا تخاف". كانت تقولها بصوت حنون، يشبه ذاك الصوت الذي ناداني، فشعرت أن الطمأنينة القديمة عادت في هيئة نداء.
كان يمكن أن أخاف، أن أرتعب من وهمٍ أو خيال، لكنّي لم أفعل.
للمرة الاولى شعرت أن الصوت لا ينتمي للظلام، بل للسعادة.
السعادة لا تصرخ، لكنها قد تناديك بهدوء في لحظة عزلة، تناديك من حيث لا تتوقع. قد تأتيك على هيئة صوتٍ لا يفسَّر، أو ذكرى قديمة خرجت من كهفها لتربّت على قلبك.
في تلك الليلة، لم أهرب من الصوت. ابتسمت، ورفعت إبريق الشاي، وسكبت فنجاناً جديداً، وكأنّي أقول: مرحباً يا من ناداني،
تأخّرت، لكنك أتيت، والأرواح التي تعرف طريقها إليك، لا تضل ولو طال الغياب.
كنت أظن أن الصحراء خالية، لكنها كانت ممتلئة بالذكرى، مفعمة بالسكينة، تحنو عليَّ كما تفعل يد أمٍ على رأس طفلها التائه.
ذاك الصوت لم يكن خارجياً فقط، كان صدىً من داخلي، يوقظ شيئاً كان نائماً بي منذ زمن. ربما كان ذلك النداء صوت ضميري، أو صوت الإيمان العتيق الذي خبأته الحياة تحت طبقات الركض والهمّ.
أدركت لحظتها أن الطمأنينة ليست مكاناً نذهب إليه، بل حالة نرجع بها إلى أنفسنا.كل تلك السنين التي عشتها أبحث فيها عن الأمان، وجدته في نداءٍ غير مرئي، في لحظة انفراد بالنفس.
الصمت الذي خفت منه أصبح مأوى. الليل الذي ظننته وحشة، أصبح ستراً وطمأنينة.
والصوت الذي ناداني، لم يكن يطلب شيئًا، بل فقط يذكّرني بأن الحياة ما زالت ترحب بي. أيقنت أن بعض النداءات لا تحمل أوامر، بل إشارات للرجوع، إشارات للحياة، وأن في كل لحظة وحدة، هناك فرصة لظهور معنى جديد، لصوت مختلف، لحقيقة أعمق.
للمرة الاولى شعرت أنني لم أكن أضيع، بل كنت أُهيأ للقاء نفسي. في تلك الليلة، لم أكتب شيئاً، لم أدوّن جملة، لم أطلب حديثًا. كنت فقط أنصت، بكل ما فيّ من شعور.
وللمرة الاولى، لم أحتج أن أفسر ما يحدث، لم أسأل: من، ولماذا؟
بل قلت في سري: أن أصدق أن بعض اللحظات تأتي فقط لترمم القلب، لا لتُفهم.
وحين ذاب الجمر تحت الرماد، وهدأ صوت الغليان في الدلة،
كان السلام قد سكنني كما لم يفعل من قبل.
وحين نهضت، تركت خلفي شيئاً قديماً كنت أحمله سنين.
شيئاً لم يكن يخصّني، لكنه علق بي.
وغادرت المكان، لا لأنني اكتفيت، بل لأني امتلأت.
كاتب كويتي
[email protected]