لم يكن الشرق الأوسط يوماً ساحة راكدة أو أرضاً محايدة في موازين الجغرافيا السياسية، بل ظل لعقود طويلة مرجلاً يغلي بالصراعات، تنفجر فيه الحروب تارة، وتتقاطع عليه مصالح القوى الكبرى تارة أخرى.
غير أن ما يجري اليوم في هذه المنطقة المضطربة ينذر بتحولات نوعية غير مسبوقة، تُعيد رسم معادلات القوة والنفوذ، وتضع الجميع أمام مفترق تاريخي: إما ولادة شرق أوسط جديد، أو غرق أعمق في مستنقعات الفوضى.
لقد تغير المشهد جذرياً. لم تعد المعادلة قائمة فقط على الصراع العربي- الإسرائيلي، أو الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي كما في القرن الماضي.
ما نراه اليوم هو تفكك للحدود، النفسية والسياسية، وصعود لقوى إقليمية جديدة تمتلك أدواتها، ومشروعها، وطموحها في إعادة تموضع المنطقة.
إيران، تركيا، إسرائيل، كل منها يحاول رسم خارطة نفوذه، فيما تتراجع القبضة الأميركية التقليدية، وتدخل روسيا والصين بثقل جديد، يخلط الأوراق ويعيد التوازنات.
الحروب التي عصفت بسورية، واليمن وليبيا، لم تكن مجرد نزاعات داخلية، بل كانت منصات اختبار لإعادة هندسة النفوذ العالمي في المنطقة. تلك الحروب كشفت هشاشة أنظمة ما بعد الاستقلال، وعمّقت الحاجة إلى أنظمة قادرة على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية في آن واحد.
لكن ما هو أخطر، أن تلك الحروب أطلقت موجة من التحولات الذهنية داخل المجتمعات نفسها، فارتفعت الأصوات المطالبة بالكرامة والسيادة، والقرار الوطني المستقل، رغم كل محاولات القمع والتخويف. وفي خضم هذه الفوضى، بدأت تبرز معادلات جديدة للقوة. لم يعد السلاح وحده هو المعيار، بل صار الاقتصاد، والتكنولوجيا، والقدرة على بناء التحالفات الفاعلة، وأدوات لا تقل أهمية. إسرائيل، مثلاً، باتت تضع أمنها في سياق تطبيع شامل مع بعض الدول العربية، لا بدافع السلام، بل لتكريس تفوقها الإقليمي. في المقابل، تسعى قوى مثل إيران إلى توسيع نفوذها عبر "محور المقاومة"، وترسيخ حضورها في عمق المجتمعات العربية، سياسياً وعسكرياً. من جهة أخرى، تشهد المنطقة صعوداً متسارعاً للديبلوماسية متعددة المسارات، كما في حالة الوساطات الخليجية، والعودة القوية للدور المصري، والانفتاح التركي على خصوم الأمس. هذه التحولات تشير إلى إدراك متنامٍ بأن الحروب لم تعد تجدي، وأن الحفاظ على الأمن القومي لا يكون إلا من خلال تفاهمات وتوازنات دقيقة، لا عبر التصعيد الدائم. العراق، على سبيل المثال، يقف اليوم في موقع حرج، لكنه ستراتيجي. فبين النفوذ الإيراني والتطلعات الأميركية، وبين الرغبة في استعادة السيادة الوطنية وضغوط الداخل والخارج، تبرز فرصة نادرة لأن يكون العراق جسراً للحلول، لا ساحة للحروب، فهل ينتهز قادته هذه اللحظة التاريخية، أم يُفرّطون بها كفرص كثيرة أُهدرت من قبل؟
الشرق الأوسط، إذن، لا يعيش مجرد فصلاً جديداً من أزماته، بل يقف عند مفترق طرق حاسم، إما أن يُعاد تشكيله عبر معادلات توازن جديدة تضع الإنسان قبل السلاح، والتنمية قبل الدمار، وإما أن تشتعل فيه الحروب مرة أخرى، لكن بثمن أغلى، ومصير أكثر ظلمة.
إن من يقرأ ما بين السطور، يدرك أن الوقت لم يعد لصالح التردد، فالتاريخ لا ينتظر المتقاعسين، بل يكتبه أولئك الذين يملكون الإرادة لصناعة التغيير، وجرأة الخروج من تحت رماد الحروب نحو أفقٍ جديد يُبنى بالإرادة لا بالوصاية، وبالسلام العادل لا بالتسويات الهشة.
كاتب عراقي