الحكمة لا تولد فجأة، بل تصنع في أفران التجربة، وتهذّب في معارك الصبر، وتصقل في مواجهات العقل مع العاطفة.
ليست الحكمة ترفاً لغوياً، بل سلوكاً متّزناً يجعل من صاحبها ميزاناً بين التهور والتردد.
فالحكيم لا يعلو صوته، بل يعلو منطقه، ولا يكثر الكلام، بل ينتقي عباراته، كما تنتقى الجواهر من بين الحصى.
لذلك يقول الشاعر:
"أما تجي حكمة تغلب على الصمت
ولا التزم بالصمت، والصمت حكمة"
البيت هذا يجسد جوهر الحكمة؛ أن تعرف متى تتكلم، ومتى يكون الصمت أبلغ من ألف عبارة. فكم من موقف لا يحتاج بياناً، بل يحتاج وقار السكوت، والحكيم يعرف أن بعض الانتصارات ليست في الرد، بل في التجاوز، وأن بعض الجراح تشفى بالاحتواء، لا بالجدال.
يصنع الإنسان الحكمة حين يتجاوز سطحيات المواقف، ويغوص في أعماق النوايا. حين لا يقيّم الناس من أفعالهم الظاهرة فقط، بل من دوافعهم ومراحلهم النفسية.
الحكيم لا يسارع إلى الحكم، ولا يستعجل النتائج، يترك للزمن دوره في كشف ما خفي، ويؤمن أن العجلة خصم دائم للحكمة.
ومن دلائل الحكمة أيضاً، أن تعامل الناس بما يليق بك، لا بما يليق بهم.
فلا تنزل نفسك منازل الغضب، ولا تساوم على ثباتك في لحظة انفعال. الحكيم يعيش لله، لا للثناء، ولا للتبرير، ولا لتصفيق الجمهور. يزن خطواته بميزان العاقبة، ويتكئ على يقينه أن كل موقف له يومه، وكل نية صادقة لها جزاؤها،
والحكمة لا تقاس بكثرة التجارب فقط، بل بالقدرة على استخلاص المعنى من كل تجربة. فمن الناس من تمر عليه المواقف مرور الرياح، ومنهم من يجعل من كل موقف درساً ومحراباً للفهم.
الحكيم لا يرى في الخطأ نهاية، بل بداية لفهم أعمق. ولا يرى في الآخرين خصوماً، بل مرايا تعكس له ذاته، وحين يكون المرء قادراً على محاورة نفسه قبل غيره، فقد خطى في أول الطريق نحو الحكمة.
فهي، أيضاً، أن تعي أن كل إنسان يعيش قصته الخاصة، فلا تقارن ظروفك بغيرك، ولا تستهين بضعف أحد، فقد يكون خلفه جهاد لا تراه.
الحكيم لا يغتر بقوته، بل يعرف أن الثبات عطية من الله، وأن التقلب سنّة من سننه في الحياة.
ومن يصنع الحكمة في نفسه، لا يحكم على المواقف بردود فعل فورية، بل يترك لعقله مسافة ليتأمل، ولمشاعره فسحة لتسكن. لذلك، ترى الحكيم صبوراً في موضع الغضب، متأنياً حين يستعجل الناس، لأنه يرى أبعد من اللحظة.
والحكمة ليست فقط في ما تقول، بل ما تختار أن تسكت عنه، وفي كيف تعبّر دون أن تحرج، وتنصح دون أن تفضح، هي ذكاء الروح قبل فصاحة اللسان.
الحكيم لا يطيل الوقوف على الإساءة، بل يترفّع عنها، لأنه يعلم أن النفس إن شغلت بالتوافه أنهكت اداء عن المهمات.
الحكمة، في جوهرها، أن تجعل من حياتك نوراً هادئاً، لا برقاً يلمع ثم يختفي. أن تكون أثراً لا صخباً.
أن تسهم في حياة الآخرين بلينك قبل قولك، وبخلقك قبل وعظك، فكل من يعيش بالحكمة، يعيش حياة هانئة، وإن كثرت عواصفها، لأن الحكمة تعصمه من الانكسار.
كاتب كويتي
[email protected]