كلوروفيل
واضح انزلاق العالم الى هاوية استخدام الكيماويات في الزراعة، وتحديدا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية منذ سنة 1945، إذ اعقبها إنتاج الكيماويات والسموم باعتقاد انها تقضي على الآفات الزراعية، والحشرات، وتحمي المحصول.
وتصور الانسان أن بإمكانه إبادة ما خلقه الله والتخلص منه نهائيا، وهذا تفكير بمجمله خاطئ. فسلاسل الكون الغذائية من صنع الخالق، واختلالها يخل التنوع البيولوجي، الذي بدوره يشكل خطرا كبيرا على الكوكب، وبأضرار جسيمة لا تحمد عقباها. الحقيقة أن كل الحشرات والفطريات والآفات بدأت بأقلمة نفسها، وإنتاج سلالات مقاومة للمبيدات، والسم الذي دخل في خلاياها، وأصبحت هي أقوى وأعنف منه.
فكان للإنسان خياران كلاهما مر، الأول زيادة التركيز للمادة الكيماوية الفعالة في تركيب المبيد المستخدم، لندخل في حلقة مفرغة من زيادة الجرعة يقابلها شراسة الآفة.
والثاني انتاج مواد كيماوية جديدة أكثر سمية من الأولى، وسلسلة من تزويد المركب المعقد إلى أن وصل الأمر بإنتاج مبيدات تضر صحة الانسان مثل "التمك"، الذي يحتوي على المادة الفعالة "الديكارب"، والمحرم دوليا، ويسبب أمراضا ومخاطر، ويبقى في الماء والتربة لمدة تفوق ستة أشهر، وهذا مثال واحد من مئات.
عام 1962 استطاعت العالمة الأميركية راشيل كارسون لفت انتباه الرأي العام إلى الاستخدام الضار والمدمر لمبيدات الآفات في كتابها الربيع الصامت "silent spring"، الذي قوبل بمعارضة من شركات المواد الكيماوية، لكنه حقق الهدف منه بتغيير أسلوب التعامل للسياسات الدولية، مع المبيدات الحشرية، ووضع قيود صارمة عليها حيث تناولت المؤلفة المخاطر الفادحة التي تخلفها.
بعدها كان الوعي البيئي، وخرجت في أوربا "حركة أحزاب الخضر"، واحدة تلو الأخرى، التي بدورها تدعو إلى الحفاظ على البيئة، وتناشد بعدم وضع السموم، سواء على الاكل، أو في التربة والماء.
حقق كتاب كارسون الهدف المرجو منه، وذلك بتراجع العالم، والتفكير قبل استخدام المبيدات، وعقدت اجتماعات عديدة، كانت تحت مظلة الأمم المتحدة لاستخراج وثيقة "سلامة الغذاء تبدأ من المزرعة"، تم من خلالها وضع أسس الزراعة العضوية.
فكانت ولادة الزراعة العضوية، التي لم تأت من فراغ، إنما نتيجة لسلبيات استخدام الكيماويات، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه للحد من السموم وانتشارها، برا وجوا وبحرا. مصاحب لذلك فرحة المستهلك بتوفير غذاء آمن صديق للبيئة، وصحي للإنسان في ظل الأجواء الملوثة من حولنا. الزراعة العضوية مرتبطة بثلاثة شروط رئيسية، أولا: عدم استخدام المبيدات الحشرية أبدا، وفي حال الإصابة بالآفات يتم اللجوء الى أساليب وحلول طبيعية لمقاومتها.
ثانيا: لا يسمح باستخدام الأسمدة العضوية، أو الكيماويات، او المضادات الحيوية، بل تعتمد كليا على السماد العضوي، سواء كان نباتياً أو حيوانياً.
أخيرا عدم استعمال البذور المحسنة، والمعدلة وراثيا، والمغلفة بمبيدات حشرية وفطرية. فلا يخفى على أحد أن الهدف الرئيسي من الزراعة هو تأمين الأمن الغذائي، ووضع مكانة وستراتيجية زراعية للبلدة.
الزراعة العضوية لم تأتِ من فراغ، لكنها ظهرت بعد تعدد مخاطر وسلبيات استخدام الانسان للمبيدات الزراعية، ومن غير المعقول والمنطقي، أن يرزقنا الله خيرات الأرض من البقول والقثاء والعدس، والبصل والتين، والزيتون، وغيرها من النعم الكثير، والماء الذي جعل منه كل شيء حي، ويقابله الانسان برش مواد كيميائية سامة قبل استهلاكه. منتجات الزراعة العضوية تتم وفق المواصفات والمعايير التي حددتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، واعتمادها للسماح للمنتج بالتسويق والتصدير تحت تفتيش ومراقبة، من الجهات المختصة، ونشاهدها في متاجر بيع نباتات وبذور كتب عليها عضوي( Bio) بشعار خاص على شكل ورقة شجرة محددة الأطراف باثنتي عشرة نجمة صغيرة باللونين الأبيض والاخضر، والذي انشأته الهيئات الأوروبية للمنتجات العضوية لسهولة تحديد المنتجات العضوية من المستهلك.
وصل العالم في الآونة الأخيرة الى إنجازات قيمة تسجل للبشرية، وتعود أولا وأخيرا بالإيجابية والصحة التامة على حياة الانسان، والتي تقبل التغيير لنوعية الطعام، ونمط الحياة الصحية لبداية جديدة أكثر صحة وأمانا، خالية من الأمراض، وللمساهمة في انقاذ العالم. ونذكر في الختام تجربة ألمانيا الدولة الزراعية القوية، صاحبة أكبر سوق محلي في العالم للمنتجات العضوية في الاتحاد الأوربي، والثانية بعد الولايات المتحدة على مستوى العالم، والتي تدفع باستمرار عجلة الزراعة العضوية وتغطية ارتفاع الطلب المستمر عليها، فقد وضعت اخيراً مخططا للوصول يحث على زراعة اكثر من 25 في المئة من المساحة الزراعية بأساليب عضوية وتحقيق معدل انتاج عضوي عال وكان لها ما ارادت حيث تجاوزت مبيعاتها 10 مليارات يورو، فهنيئا لهم والفال لنا... والى مستقبل أخضر مثمر إن شاء الله.
دكتوراه في فلسفة النبات