حين تتأمل المجالس عبر التاريخ، تدرك أنها لم تكن يوماً مجرد أماكن يجتمع فيها الناس، بل كانت مدارس تربّي النفوس، قبل أن تغذي العقول
فيها تختبر أخلاق الرجال، وتعرف مقاماتهم الحقيقية، بعيداً عن المظاهر. ومن أصدق ما دلّ على ذلك حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) حين قال: "لا يقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا".
ثم يروي لنا ابن عمر رضي الله عنهما عن نفسه موقفاً يعلّمنا من خلاله خلق الكبار، فيقول: "وكان إذا قام له رجلٌ من مجلسه لم يجلس فيه"، تأمل هذا الخلق.
ابن عمر، الصحابي الجليل، المربّى في بيت النبوة، يرفض أن يجلس في موضع شخص قام له احتراماً أو هيبة. لا يريد لأحد أن يؤذى في مشاعره لأجل مكان يجلس فيه، مهما بدا بسيطاً.
لأن المجالس في منطق العظماء لا تنال بالزحام، بل بالتوسّع والتفسّح، ولا يزين الرجل فيها مكانه، بل يزينه أدبه وحسن خلقه.
اليوم، نرى من الناس من يتسابقون على صدر المجالس، أو يقفون فوق الرؤوس، ليقال إنهم أهل جاه ومقام. ينسون أن النبي، الذي علا قدره بين الخلائق جميعاً، كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، لا يزاحم، ولا يطلب تميّزاً في مكان، لأن عظمته كانت في روحه، لا في مقعده.
إن توسيعك للمجلس حين يضيق، خلقٌ نبيل، وهو رسالة ضمنية تقول "أنت مرحب بك، مكانك محفوظ في قلبي قبل أن يكون محفوظًا إلى جانبي".
وهذا التوسّع لا يقتصر على فسح المكان بالبدن فقط، بل يشمل فسحة الصدر وسعة النفس، بأن تجعل من يجلس معك يشعر بالراحة والطمأنينة.
فكم من مجلسٍ ضاق رغم سعته، لأن أصحابه ضاقت صدورهم، وكم من مجلسٍ صغير فتح الله له البركة والسكينة لأن أهله وسّعوا فيه بقلوبهم، قبل أبدانهم.
وفي المقابل، كم هو موجع أن يقيم الإنسان أحدا من مجلسه ليجلس مكانه.
فهذا التصرف يحمل في داخله تعالياً وكبراً، وكأنه يقول بلسان الحال: "أنا أولى منك بهذا المكان". لكن العظمة الحقيقية أن تشعر الآخرين أنهم مكرّمون، وأن مكانهم محفوظ، وأنك لا ترى نفسك فوقهم مهما كانت منزلتك.
وليس عجيباً أن نجد في الحديث إشارة خفية للتواضع ؛ فالنبي حين أمر بالتوسع والتفسح، كان يعلم أن زحمة المجالس تولّد أحيانا زحمة في النفوس، فيبدأ الناس بالمقارنات والأحقاد الخفية، بينما التوسّع يمنع كل ذلك، ويزرع المودّة والسكينة والراحة. لذلك، يا صاحبي، إذا دخلت مجلساً، لا تزاحم من أجل مكان، بل اجعل أدبك وتواضعك هو المكان الأرفع.
وإذا قام لك رجل، فلا تجلس مكانه، بل اجلس حيث ينتهي بك المجلس، فإن الله يرفعك لا موضعك، بل بتواضعك وخلقك، وحياء قلبك.
وفي الختام، تذكّر أنك في كل مجلس تترك أثراً.
فاختر دائماً أن تترك أثر المروءة والتواضع، وفسحة القلب، فإن المجالس تفنى، لكن أخلاق الرجال تبقى خالدة لا تزول.
كاتب كويتي
[email protected]